ليست جديدة تلك «الأوكار» التي يتخذها البعض مراكز لممارسة الخروج عن الدين والعرف والتقاليد، فتصبح بذلك بؤر فساد وانحلال ورذيلة، تُغوى فيها الفتيات الضعيفات، أو المنحلات أخلاقيا، أو أولئك اللاتي تتشعب المشاكل والتفكك الأسري في أوساطهن، فتضعف الرقابة الأسرية، وبالتالي ينجرف بعضهن إلى مهاوي الردى.
على شكل شقق مفروشة، منتجعات، شاليهات، بيوت... وحتى الخرائب والأماكن الموحشة، صارت مقرا للشهوات المحمومة للجنسين، مع عدم إلقاء اللوم تقليديا على الرجل وحده ووصمه بـ «الذئب البشري» كما تدرج العناوين الصحافية في الغالب، فلولا توافق الطرفين - وربما بالتساوي - لما انتشرت ظاهرة الانحلال الأخلاقي والفساد الذي يستشري بسرعة، تغذيه رياح العولمة والإعلام الرخيص الآتي من المحطات عربيها وأجنبيها، وأسباب أخرى ليس من الحصافة في شيء التعجل بإيرادها قبل التثبت منها.
فقد يخيل اليك وانت تجتاز الاشجار والنخيل باتجاه غرف مهجورة من طابقين موجودة بالقرب من مضخة مياه في المحافظة الشمالية (ليس بعيدا عن عين أم السجور) كون هذه المنطقة يغلب عليها التكوين القروي المترابط والمتداخل، يخيل إليك وكأنك تدخل مناطق لا تراها إلا في الافلام الأميركية عن غرف الجرائم في ازقة برونكس في نيويورك... ليس بمنزل، بل غرفتان على طابقين عندما تراهما من بعيد لا تظن ان بهما من المساوئ التي لا تصدق انها في بلادنا المحافِظة... البحرين.
أول ما يلفت الانتباه إلى هذا المبنى المنعزل الشك في أنه شبه مهجور، أي أن بانيه الأصلي تركه للريح تجول فيه، ومن ثم اتخذه العابثون واللاهون مقرا لممارسة الرذيلة على هواهم بلا رقيب... ولا أدل على ذلك من «استيطان» هذا النفر من الناس هذا المكان مدة طويلة، وما تركوا من بقايا، وما رسموه على الجدران، مما يعني أن المكان بات متعارفا عليه لدى هذا النفر من الناس.
على الأرض تنتشر بقايا عوازل يستخدمها الرجال عند ممارسة الجنس ... في إحدى الزوايا يتكوم فستان بيتي نسائي... رسومات فاحشة (نخجل من عرضها على صفحات «الوسط» كما نخجل من عرض بقايا وقاذورات واضح منها ماكان يفعل هؤلاء الشباب ببعضهم البعض) وتدل على نفسيات مريضة، رُسمت على الجدران... مواد وادوية تستخدم للمساعدة في ممارسة الجنس... مناظر قبيحة لبقايا وقاذورات يرميها المترددون على المكان.
من خارج الغرف تبدو الشبابيك وقد أغلقت باستخدام الخشب وكأنما يوحى بأن المكان لا يستخدم أبدا، توجد في الخارج ايضا حمامات سيئة الحال... والممر الرملي المؤدي إلى هذا المكان به آثار طازجة لسيارات كثيرة أتت إلى هذا المكان في الساعات والايام االأخيرة... الدخول والخروج الى هذا المكان يحتاج إلى جرأة من الذين يأتون اليه لممارسة الجنس والعبث بالجدران والمكان ورمي بقايا ما يستخدمونه على الارض....
هل نسي العابثون (من الجنسين) أنهم لا يزالون في البحرين؟ وأن ما يحيط بهذا المكان نخيل باسقات رواها آباؤهم بمياه العزة والشرف، وخضّروها بالعفة والصلاح، ومآذن تكاد تطل عليهم من كل صوب تروي حقيقة أهل هذا البلد؟
لن نلجأ إلى اصطناع العويل، ولكن مع كثرة ما نسمع ويصل إلينا من حالات هروب الفتيات الصغيرات من بيوتهن، وانحلال الشباب، وتفسخ روابط الأسر، وانشغال الكل عن الآخرين بهمومه الخاصة، تبدو الفرصة أكبر لتسرب روح المغامرة لعدد ليس بقليل من الشباب... المغامرة بمعانيها السلبية هذه المرة، اكتشاف طريق ربما من الصعب العودة منه، ولذلك لا مفر من العودة إليه مرارا، وكلما مر يوم كلما توغل المتورطون في اللا عودة، واللا قبول المجتمعي.
لن يكون هذا المبنى وحده قائما وشاهدا على ما وصل إلينا من ثقافة غريبة، وما آلت إليه حالنا من تفكك على أكثر من صعيد، ففي يقيننا أن الظاهر المحافظ - غالبا - يختبئ الكثير من «المباني» المشابهة في الغرض، والمختلفة في الشكل والطراز والمواقع، ربما لا تخلو محافظة من مبانٍ مشابهة الغرض، وبالتالي فليس المكان هو الأساس بعدما كان البعض يقول إن ما يحدث في المدن لا يمكن أن تمتد آثاره ليحدث في القرى أيضا، فالواضح أنه لم يعد هناك مكان محصّن ضد أي نوع من الغزو الأخلاقي السيئ.
بعض الفتيات تدفعهن الحاجة المادية إلى ممارسة الرذيلة، بعضهن مدفوعات من التأثر بموجات الإعلام السيئ الذي يسهّل ويهوّن مثل هذه الممارسات، ويقرّب الحلول للفتاة وولي أمرها على حد سواء، وبالتالي ربما قالت إحداهن وهي متجهة إلى هذا الدرب: «اليوم (خمر)... وغدا أمر».
الأمر لا يقتصر على أناس من دون آخرين في المجتمع، أولياء الأمور معنيون بالدرجة الأولى... وزارة التربية والتعليم يقع على عاتقها جزء كبير من المسئولية... وزارة الإعلام، عليها انتقاء ما يصنع جيلا فاعلا طموحا، وليس ما يخلق جيلا يختار الأسهل والأقبح من الثقافة الغربية التي - هي ذاتها - تنادي بعقلنة وكبح الشهوات المنفلتة إلى حد الجنون والسفه... المؤسسة العامة للشباب والرياضة، وما عليها من دور يتجاوز الجري وراء الميداليات والألقاب ولو عن طريق بذل المال لشراء لاعبين من غير أهل البلاد، عليها أن تتجه إلى أهل البلاد أولا وتعمل على إصلاح الجزء الأول من تركيبة اسمها «الشباب»، بخلق البرامج والاهتمام المتجاوز للأنشطة المعتادة، وتصريف طاقاتهم وهممهم في أمور تعود عليهم بالنفع... المؤسسات الدينية عليها أن تبدّل خطابها لتجد لها منافذ جديدة تطل من خلالها على الشباب الذين ملّوا الأشكال المتكررة من الوعظ، وتحصنوا بملذاتهم فلم يعد يؤثر فيهم ذكر المواعظ بشكلها التقليدي... الجمعيات السياسية ولجانها الشبابية وكيف يمكنها امتصاص هذه الطاقة الجبارة لدى الشباب وتحويلها إلى قوة فاعلة ومنتجة، بدل أن تركن إلى صرفها في مصارفها الصحيحة.
مخطئ من يظن أن هناك مجتمعا متكاملا خاليا من العلل، يعيش بلا ذنوب، ولا توجد للرذيلة فيه محطة... ولكن ليس من الحكمة الانتظار حتى يأتي ذلك اليوم الذي تتراجع فيه القيم حتى تصبح فيه العفة والطهارة من الأمور التي تروى في الأساطير، وتصطف مع المستحيلات لتصبح أربعة بعدما كانت ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي والعفة.
«الوسط» التقت بعالم الدين البارز السيد عبد الله الغريفي وعرضت عليه الامر وسألته عن رأيه، فأجب:
«المسئولية فيما حدث ويحدث تقع على عاتق الدولة اولا والمجتمع ثانيا. الدولة هي التي تملك الامكانات واذا لم تعالج الانحرافات فإن ذلك قد يؤثر على المشروعات الاصلاحية الاخرى. المفاصل الاساسية التي تحمي البلد بيد الدولة ويمكنها ان تحد من مظاهر الفساد. الجانب الاقتصادي له دوره ايضا، لأن الظروف الموضوعية قد تدفع ببعض الناس إلى ارتكاب المفاسد الاخلاقية».
وعن دور الجمعيات الاسلامية فيما حدث قال الغريفي: «لاأعتقد انها فاشلة في دورها ولكن ما نسعى اليه هو ان يتحول الخطاب الاسلامي الى مشروع والى حركة في الواقع ويمكن الاعتماد على المؤسسات الخيرية والمساجد والحسينيات وفرق العمل المتخصصة لدراسة الظاهرة ووضع الحلول العملية لها، وتلك الحلول يلزم ان تشمل اكثر مما هو عليه الوضع الآن من تشجيع الزواج الجماعي وغيره... اذ اننا بحاجة إلى دراسات علمية تحدد العوامل التي دعت إلى تلك الانحرافات»
العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ