منذ مطلع الثمانينيات كانت البحرين رائدة على مستوى المنطقة العربية في مجال الكفاءة الإدارية والتنظيم الإداري السليم. فقد سبقت الإدارة العامة في البحرين غيرها من الدول العربية في العمل وفقاً لمبادئ التنظيم والإدارة المتعارف عليها دوليّاً، مستفيدة بذلك من الخبرات في الدول المتقدمة ومن الكفاءات الوطنية المدربة. فمنذ مطلع الثمانينيات وبعد إعادة تنظيم ديوان الموظفين، ورفده بالخبرات العالمية تمكن الديوان من مساعدة وزارات ومؤسسات الدولة في إعادة تنظيمها وفقاً لهيكلة حديثة، أخذت في الاعتبار كفاءة التنظيم والحد من تكاليف القوى العاملة وتحسين إجراءات العمل. وقد عمل المختصون في مجال التنظيم والإدارة لسنوات عدة متواصلة على دراسة المهمات الوظيفية لكل جهاز حكومي، وتطوير دليل للمهمات الوظيفية لكل وزارة ومؤسسة، بغرض التخلص من التداخل والازدواجية في المهمات بين الأجهزة وفي داخل الجهاز الواحد، ووضع أوصاف وظيفية لكل وظيفة لغرض تطوير نظام تصنيف الوظائف، وتوزيعها بحسب التبويب المعمول به في هذا المجال، وكذلك لمنع تعدد المستويات الإشرافية غير اللازمة وفقاً لمعايير التنظيم الإداري. وإلى جانب ذلك تواصلت الجهود لتدريب المسئولين في مختلف الأجهزة الحكومية على تطبيق هذه النظم الحديثة سواء في البحرين أو خارجها. وقد كان للتعاون والتكامل بين ديوان الموظفين ووزارة المالية والاقتصاد الوطني في هذا المجال الأثر الأكبر في ترشيد النمو في حجم القوى العاملة، والسيطرة على مصروفات الباب الأول وفقاً لمنهجية التحليل الكمي لحجم العمل الذي بموجبه يتم تحديد سقوف القوى العاملة لكل وزارة. وقد نجحت البحرين في هذا المجال وأنجزت ما يمكن أن يقال عنه بالحكومة الرشيقة، التي مكنت من استيعاب الانخفاض في أسعار النفط والتكيف مع حالة الانكماش الاقتصادي في أكثر من مناسبة.
وقد نالت تجربة البحرين الرائدة هذه الإشادة والإعجاب في كثير من المؤتمرات العربية والعالمية. وهكذا يمكن القول إن هيكلة أجهزة الدولة على أسس سليمة يتطلب تخطيطاً وتمهيداً وعملاً دؤوباً مستمراً غير محدود بفترة زمنية. كما يتطلب تنسيقاً وتعاوناً مستمراً ووثيقاً بين الجهاز المركزي المسئول عن الخدمة المدنية، ومختلف الأجهزة الحكومية الأخرى. فبهذه الطريقة تتجنب الحكومة مفاجآت غير سارة عندما تنخفض العائدات، وتتمكن من التعامل مع أية هزات مالية بأقل الأضرار عندما يتم ترشيد مصروفات الباب الأول الذي يشكل نسبة كبيرة من المصروفات الحكومية.
إن التنظيم وإعادة التنظيم هي بطبيعتها عملية مستمرة، وبهذا لا يمكن اعتبارها مهمة موسمية تقبل عليها الحكومة وقت العسر، ولا توليها الاهتمام اللازم في وقت اليسر. إن تناول موضوع التنظيم وفقاً لنهج إدارة الأزمات لا يؤدي الغرض المطلوب. فالتعامل مع الفائض والبطالة المقنعة بصورة حادة أمر حساس، وله عواقب سياسية واجتماعية كبيرة. كما أن تحسين إجراءات العمل والتخلص من الازدواجية والتداخل في المهمات، عملية مستمرة ومضنية وتتطلب فترة زمنية وخبرات كالتي بنتها البحرين قبل ثلاثين سنة. فهذه المهمة التي يقوم بتنفيذها في العادة فريق متخصص ومتفرغ ليس بوسع لجنة أن تقوم بها، ما لم يتوافر لهذه اللجنة ذراع تنفيذي بالطريقة التي تم ذكرها أعلاه.
إنها لمفارقة غريبة أن تبحث رائدة التنظيم والإدارة عن طريقة لإعادة هيكلة أجهزتها، وتنسى أنها تمتلك تجربة مميزة يمكن البناء عليها لمعالجة ما تواجهه أجهزتنا التنفيذية من معوقات. إنها حالة جديرة بالتأمل كخطوة أولى للتغلب على تضخم أجهزتنا التنفيذية التي أصبحت تلتهم جل دخل النفط.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 5324 - الثلثاء 04 أبريل 2017م الموافق 07 رجب 1438هـ