قبل أكثر من 1423 سنة كان المجتمع العربي بشكل عام ومجتمع الجزيرة العربية بشكل خاص يعج بمختلف التلاوين من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية السيئة والتي كانت في مجموعها تكون عصر الجاهلية، وحين بزغ فجر الإسلام واجه في خطواته الأولى أصنافا من المشكلات والتعقيدات التي تغلب عليها رسول الرحمة بكثير من الصبر والعمل وفق التوجيهات الإلهية التي كانت تنزل عليه وحيا قرآنيا يقوده إلى حل المعضلات وتجاوز الأزمات. وكان لرسول (ص) بحكم القرآن دائما ممتثلا ومنفذا، وحين واجهت الإسلام مشكلة كثرة الجرائم والكبائر التي ارتكبها الداخلون إلى الدين الجديد آنذاك كان مطلوبا أن يتم تطهير هؤلاء من آثامهم وأرجاسهم والكبائر التي ارتكبوها، وهنا يتدخل الوحي الإلهي (الإسلام يجب ما قبله) وبذلك يصبح كل مسلم جديد طاهرا من الدنس والرجس والآثار كيوم ولدته أمه.
ترى هل يناسب أن نعود إلى الوراء كل هذه الفترة الزمنية التي تقارب 15 قرنا لنطبق ذات القاعدة على المواطنين في مملكة البحرين بشكل عام والنواب والشخصيات العامة بشكل خاص؟
لقد لفت انتباهي أن أيا من المتقدمين إلى عضوية مجلس النواب، وقبل ذلك إلى عضوية المجالس البلدية لم يتم رفض طلباتهم ولم يتم التحقيق في ملفاتهم، فقط من لم تنطبق عليه بعض الشروط الفنية، مثلا أن يكون راغبا في الترشيح في إحدى المناطق بينما عنوانه في منطقة أخرى، لكننا لم نسمع أن أحدا من المترشحين الذين جاوز عددهم في المجالس البلدية 340 مرشحا واقتراب عددهم في الانتخابات النيابية من 200 مرشح، أي أ إجمالي من ترشح لهذه المجالس قد تجاوز 500 مترشح وهي نسبة تعادل 1,5 تقريبا من البحرينيين، لم نسمع أن أحدا منهم رفض طلبه.
لماذا لم نسمع أن لجنة قبول المترشحين للانتخابات البلدية والنيابية بعد ذلك رفضت أحدا لأسباب جوهرية مثلا التزوير في مستندات رسمية، ارتكاب ممارسات لا أخلاقية، رشوة، فساد إداري، فساد مالي إلخ...؟
وإذا تجاوزنا من ترشحوا ولم يحالفهم الحظ في الفوز بمقاعد البرلمان أو المجالس البلدية، ترى هل يحق لنا نحن المواطنين أن ننبش في ملفات الفائزين بعضوية مجلس النواب والمجالس البلدية وحتى مجلس الشورى؟ وربما بعض الوزراء أيضا؟ تماما كما يحدث في الديمقراطيات العريقة، أم أننا نأخذ من هذه الديمقراطيات ما نشاء ونترك ما نشاء بحجة أن هذا لا يتناسب مع تقاليدنا وعاداتنا، ثم من هي الجهة التي يحق لها أن تحدد ما يناسبنا وما لا يناسبنا، هل هي الحكومة نفسها؟ أم الجمعيات السياسية؟ أم المؤسسات المنتخبة؟ أم المؤسسات المعينة؟ بالنسبة إليّ أعتقد أن ما يناسبنا هو ما لا يجد تعارضا مع الدين والأخلاق والمثل الاجتماعية الراقية التي نعتمدها في مجتمعنا، لكن ما يحدد ذلك هو مدى تجاوب فئات وشرائح المجتمع معه، وأحسب أن أحدا من أفراد المجتمع البحريني الواعي والمثقف لن يقبل بالفساد أو الانحراف أو الرشوة أيا كان مصدرها ومرتكبها، وعليه فإن الجميع سيكون سعيدا إذا ما تم التحقق من ذلك بالنسبة إلى الشخصيات العامة أيا كان موقعها.
أليس هذا العهد عهد الشفافية؟! ثم أليس كل هؤلاء النواب وأعضاء المجالس البلدية والشورى وكبار المسئولين شخصيات عامة يجب الاطمئنان إلى نزاهتها ونظافة يدها؟
ثم كيف سنتعامل مع من تثبت بحقهم تهم تسيء إلى المنصب الذي يمثلونه، هل ستتم محاكمتهم؟ هل سيتم إعفاؤهم من مناصبهم؟ أم أننا سنطبق بحقهم جميعا نظرية (العهد الإصلاحي يجبّ ما قبله؟!) ماذا لو اكتشفنا بالدليل القاطع أن بعضا من نوابنا وأعضاء مجلس الشورى المسئولين عن التشريع لديهم سجلات مخلة بالشرف والأمانة؟ هل نتوقع أن يحدث لهم ما حدث لبيل كلينتون رئيس أكبر دولة في العالم حين تم نشر غسيله عبر كل وسائل الإعلام العالمية بالصوت والصورة إثر فضيحة مونيكا اليهودية؟
هل سيتقبل السادة المنتخبون في مجلس النواب والمجالس البلدية والمعينون في مجلس الشورى والحكومة والوظائف القيادية في المملكة أن تفتح ملفات الفساد الإداري والأخلاقي والمالي برحابة صدر تعزيزا لمبدأ الشفافية والانفتاح السياسي وحرية الرأي والرأي الآخر؟ هل سيقدمون استقالاتهم إذا طالتهم التحقيقات؟
بين يدي اليوم حوادث قصة واقعية لإحدى الوافدات العربيات إلى البلاد للعمل وكسب الرزق، عملت لدى إحدى المؤسسات التي كانت تديرها شخصية مرموقة في المجتمع كله، لم يحترم مكانته وسعى إلى استغلال موقعه في التعرض لهذه الوافدة التي رفعت أمره إلى صاحب المؤسسة ثم إلى التحقيقات الجنائية وسجلت واقعة بذلك تم على إثرها استدعاء شهود من المؤسسة وحالات سابقة مشابهة، لكن الملف أقفل لأسباب مجهولة.
وإذا كان ذلك قد وقع قبل أن ينال السيد حصانة برلمانية فكيف سيتم التعامل مع وضعه الآن بعد أن حصل على هذه الحصانة؟ إن ذلك يجعلنا نمسك بطرف الخيط فقط، لأن حالات أخرى مشابهة وكثيرة قد حدثت بكل تأكيد، فقبل أيام تم التشكيك في مؤهلات أحد الفائزين بمجلس النواب، وليس هناك من داعٍ للتشكيك في مؤهلات عدد آخر من أعضاء المجالس الذين تم نشر السيرة الذاتية لكل منهم على صفحات الصحف وبدا أن بعضا منهم ليس من أصحاب الكفاءة والرأي والمشورة وفقا لهذه السيرة الذاتية.
إن الحديث عن العهد الإصلاحي والانفتاح... شيء جميل لكن فاتورته ستكون باهظة الثمن، لأن كثيرا من الأمور كانت مستورة كما يقولون، ونحن اليوم حين ننادي بالشفافية مطالبون بأن نلتزم بمعاييرها المتعارف عليها في مختلف بلدان العالم، وليس أن نفصل لنا معايير خاصة تتناسب مع ما كنا معتادين عليه وفق قاعدة (خلها مستورة) لأننا وبكل بساطة لن نستطيع أن ندعمها كذلك ولو حاولنا واجتهدنا كثيرا.
الواقع يقودنا إلى الإشارة إلى أن حتى القوانين التي صدرت أو ستصدر في الأيام المقبلة تحت لافتة (عفا الله عما سلف) لن تكون مفيدة ومجدية، لأن العالم حولنا يتطور ويتداخل ويؤثر بكل شيء، وأحسب أن الجميع قد تابع عن كثب الجهود الدولية لإدانة مجرمي الحرب الدوليين ومحاكماتهم التي تتم في غير بلادهم وبعيدا عن القوانين التي تم تفصيلها خصيصا من أجل حمايتهم من الملاحقات الجنائية والسياسية وحتى الأخلاقية. ولنا أن نتذكر في هذا المجال شخصيات عالمية مثل بيل كلينتون والرئيس التشيلي بينوشيه ثم السفاح الصهيوني أرييل شارون.
ولعل كثيرين تابعوا عن كثب قصة العقيد الهارب عادل فليفل وتداعياتها على صفحات الصحف وأروقة المحاكم داخل وخارج البحرين ومدى الإحراج الذي وقعت فيه البلاد بسبب هذه القضية، ومرة أخرى نعود إلى موضوعنا الأساس... هل يجبّ العهد الإصلاحي ما قبله؟! وإذا كان الجواب المفضل لدى البعض نعم، ترى هل يمكن أن تكون هناك ضوابط معينة ومذكرات تفسيرية توضح وتفلسف الأسباب التي سنسوقها من أجل تبرير هذا التغاضي عن مختلف الجرائم التي انتهكت فيها القوانين والأخلاق والإنسانية بدعوى الحصانة البرلمانية، البلدية، الدبلوماسية، السياسية. سمّها ما شئت لا فرق المهم الحماية من المحاكمة والملاحقة القانونية.
أعتقد أننا أمام استحقاقات جديدة لم نعتد عليها من قبل، لماذا؟ لأننا وبكل بساطة لم نكن نعيش هذا العهد الإصلاحي عهد الانفتاح والحرية الذي دشنه الملك المفدى، لكن هذا العهد أمام امتحان آخر بشأن الحريات الشخصية واحترام حقوق الإنسان بعيدا عن الاستعباد والرّق الجديد الذي عشعش وترعرع تحت الأرض وفوقها في سنوات الطفرة النفطية التي مرّت بها البلاد ثم تداعياتها التي غيّرت مجتمع البحرين المحافظ.
إنه جرس إنذار نقرعه اليوم قبل فوات الأوان، آملين أن يتمكن البرلمان من تلمس الحلول الناجعة لهكذا مشكلات بعيدا عن التحيز الأعمى لأعضائه، متطلعين إلى أن تشتمل اللائحة الداخلية لمجلسي النواب والشورى على مواد واضحة تعالج مثل هذه الحالات حفاظا على سمعة بلادنا وتحقيقا لشعار المملكة الذي يتردد في كل المحافل الدولية
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ