أفرزت الانتخابات «الديمقراطية» التي جرت حديثا على امتداد العالم الإسلامي من باكستان شرقا إلى المغرب غربا، انقلابا حزبيا في مفهوم العمل السياسي الإسلامي، ومكانته في بلاده. وصعدت بالتالي بأحزاب جديدة المفهوم والشكل إلى قمة السلطة الحاكمة أو بقربها.
ولم يكن ذلك بعيدا عن العين الأميركية المتابعة والمراقبة والفاحصة، فقد كان منطقيا أن تقلق أميركا «الجديدة» المعبأة برياح الكراهية للإسلام والمسلمين خصوصا بعد الهجمات الانتحارية عليها في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، من هذه الهبة السياسية الصاعدة، التي تقودها أحزاب «إسلامية» جديدة ووجوه سياسية حديثة المظهر والملبس والخطاب السياسي الإعلامي العلني.
لكن الحقيقة أن أميركا ليست قلقة، بل هي مغتبطة لهذا الصعود الذي يبدو للبعض مفاجئا، لأن أيديها لم تكن بعيدة تماما عن إدارة حراك هذا التيار الإسلامي الحديث أو المعدل والمطور، بل لا نغالي إن قلنا إن الطرفين التقيا عند نقطة وسط، تبشر بتوافق واضح قد يستمر في المصالحة «التاريخية» لفترة، وقد ينقلب على عقبيه، وبكل أسبابه ودوافعه.
ففي الشهور الأخيرة جرت انتخابات «ديمقراطية» في باكستان، والمغرب، والبحرين، وتركيا، وقبلها شهد الموقف السياسي تغيرا ملحوظا في إيران والجزائر.
وفي كل هذه المواقع صعد عبر صناديق الانتخابات وتحت راية الديمقراطية جيل جديد من الأحزاب والقيادات الإسلامية، التقت بدرجة من الدرجات، مع الدعوة الأميركية التي انطلقت بعد هجمات سبتمبر، والقائلة بضرورة «تحديث الإسلام» وتطويره، ودفع المسلمين دفعا نحو النموذج الغربي للديمقراطية، حتى يخرجوا من اسار الديكتاتورية والتخلف والعنف والتطرف، الذي أفرز الإرهاب والإرهابيين الذين هاجموا قدس الأقداس في قلب أميركا ذاتها.
إيران كانت سباقة في السير في هذا المضمار، فقد أجرت انتخابات قبل أقل من عامين، فاز فيها للمرة الثانية تيار الإصلاحيين الجدد بزعامة محمد خاتمي رئيس الجمهورية وحزبه «جبهة المشاركة» بزعامة أخيه رضا خاتمي، فوق تأييد هائل من الشارع قادته النساء والشباب خصوصا، متطلعا إلى نقل إيران من قبضة «الملالي» المحافظين المتشددين المؤمنين براديكالية الثورة الإسلامية، وفق مبادئ الإمام الراحل الخميني، إلى عصر التحديث والتطوير الديمقراطي، ومن مخاصمة العالم ومعاداة دول الشر ـ خصوصا أميركا ـ إلى التحاور والتوافق مع هذا العالم.
وتلقفت أميركا هذا الوقع الإسلامي الجديد بترحيب حار، وربما تكون قد أساءت إلى هذا التيار حين أعلنت ترحيبها به، فانقض عليه التيار المتشدد ليعرقل خطة الإصلاح والتحديث، ويكبل أيدي خاتمي ورجاله على نحو ما نرى الآن.
في باكستان تمكن تحالف «مجلس العمل الموحد» الذي يتشكل من ستة أحزاب إسلامية بزعامة فضل الرحمن، من زيادة مقاعده في البرلمان المنتخب حديثا إلى 60 مقعدا، ما جعله الرقم الصعب في المعادلة السياسية، الذي يخطب وده الجميع بما في ذلك حزب الرابطة الإسلامية الموالي للرئيس برويز مشرف وجماعته العسكرية الحاكمة. إذ أنه من الصعب في ظل التركيبة السياسية الحاكمة، على أي حزب سياسي أن يحكم بعيدا عن التحالف أو الاتفاق مع كتلة الأحزاب الإسلامية الجديدة.
في البحرين، اكتسح الإسلاميون بتنويعاتهم من المعتدلين والمتشددين، مقاعد البرلمان، الذي جرت انتخاباته في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد غياب طويل بدأ العام 1975 حين تم حل البرلمان وإيقاف المسيرة الديمقراطية. وعلى رغم مقاطعة أربعة أطراف سياسية فاعلة لهذه الانتخابات، تتقدمها «جمعية الوفاق الإسلامي» ذات النفوذ الواسع بين الشيعة، فإن باقي أطراف المعادلة الإسلامية تكفلوا بإتمام المهمة، في ظل دعوة الإصلاح وخطة التحديث الديمقراطي التي أطلقها أخيرا ملك البحرين الشاب.
في المغرب، تمكن الإسلاميون، خصوصا حزب العدل والتنمية بزعامة الخطيب وعبدالله كيران، من اختراق توازنات المعادلة الانتخابية الأخيرة، بدرجة ملفتة، فأصبحوا كتلة المعارضة الرئيسية، لحكومة «جطو» المكونة من أحزاب سياسية مختلفة أهمها حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، ولكل منهما مكانه ومكانته في الخريطة السياسية التقليدية، وعلى رغم ذلك لم يتمكنا من العودة إلى الحكم منفردين، كما كانا بالأمس القريب!
في الجزائر أفرزت الانتخابات الأخيرة بروز مكانة أكبر حزبين إسلاميين حاليين ـ في ظل تغييب دور الجبهة الإسلامية للإنقاذ ذات النفوذ القديم ـ وهما «الحركة من أجل الإصلاح» بزعامة الشيخ عبدالله جاب الله، ولها 43 مقعدا في البرلمان الحالي، وحزب أو حركة مجتمع السلم» بزعامة الشيخ محفوظ نحناح وله 38 مقعدا، وقد شغلا المشهد السياسي الجزائري بخطاب إسلامي جديد، على أنقاض الخطاب المتشدد الذي كانت تتحدث به «جبهة الإنقاذ» ـ المحظورة ـ بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج وكلاهما في السجن الآن.
وها هي تركيا تنتج لنا عبر الانتخابات التي تمت قبل أسبوعين، معادلة جديدة في الحكم... فقد فاز حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» بزعامة رجب طيب أردوغان، وعبدالله غول، بغالبية كاسحة في البرلمان، مكنته من الحكم منفردا للمرة الأولى منذ سنوات، ومبعدا أحزابا سياسية ورموزا تاريخية ذات بريق، من عينة أجاويد، ويلماظ، وجيم، وتشيلر، ومحدثا زلزالا هائلا بمعنى الكلمة ومفهومها السياسي، تناسى معه البندول السياسي، حتى الأحزاب الإسلامية الأخرى وخصوصا حزب الفضيلة برئاسة أربكان الذي كان سباقا في الوصول إلى الحكم ذات يوم، لولا تدخل العسكر التركي من ناحية، والضغط الأوروبي الأميركي من ناحية أخرى.
ولأن التطور الذي هو الأبرز والأكثر دراماتيكية، فإننا نتوقف أمامه، لنستخلص منه المؤشرات الحقيقية، الخلفية والمسكوت عنها، والمعلنة الصريحة في وقت واحد.
فتركيا كما نعلم تخلت عن زعامة «الخلافة الإسلامية» بعد الحرب العالمية الأولى، وقام كمال أتاتورك بانقلاب سياسي أيديولوجي هائل، ليبني تركيا العلمانية بعد قرون من تركيا الإسلامية، ووجه سياستها وارتباطها نحو الغرب الأوروبي باسم التحديث الديمقراطي، مخاصما الشرق الإسلامي وتخلفه!
لذلك أصبحت تركيا عضوا في حلف الأطلسي، وتسعى حاليا بكل الجهد إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي، الذي يفرض عليها شروطا تعسفية، وفيها تقوم القواعد العسكرية لأميركا وحلف الأطلنطي، ومن ثم فإن أي تطور سياسي داخلها محكوم بهذه العلاقة ذات الأبعاد العميقة مع الغرب، الذي يجتهد كل الاجتهاد في غسل الأتراك من تراثهم الإسلامي وارتباطهم بالشرق ثمنا لانتمائهم إلى الغرب.
ومن غير المتصور والأمر هكذا، أن يتمكن «حزب إسلامي» من الحكم منفردا عبر الانتخابات الديمقراطية أو غير الديمقراطية، إلا إذا كان متوافقا مع المبادئ الكمالية الأتاتوركية في العلمانية ـ فصل الدين عن الدولة خصوصا ـ وفي الارتباط العضوي بالغرب... وخصوصا أن الدستور التركي العلماني، خوّل المؤسسة العسكرية سلطة التدخل المباشر في تغيير وتشكيل الحياة السياسية بما في ذلك رئيس الجمهورية والحكومة، إذا رأى منها خروجا على المبادئ العلمانية الأتاتوركية...
ولذلك جرت الانتخابات الأخيرة التي صعدت بحزب العدالة والتنمية (الإسلامي) إلى قمة الحكم منفردا، بتأييد ورضا من الغرب الأوروبي الأميركي، على رغم الراية الإسلامية التي يرفعها، وعلى رغم حداثته المطلقة وخبرته القليلة في المشهد السياسي التركي...
ولأول نظرة يتصور البعض أن هذا يمثل تناقضا، إذ كيف ترضى أميركا وتوافق أوروبا على أن تعود تركيا إلى الخضوع لحزب سياسي إسلامي؟ لكن النظرة الفاحصة المدققة تقول إن الأمر تحت السيطرة، وان الغرب وقد ضاق بفساد الأحزاب والنخبة السياسية القديمة والمهترئة، ومداهنة الشعور الشعبي المتصاعد «المرتد» إلى الانتماء الإسلامي، قد وجد في هذا الحزب الجديد ضالته المنشودة، وخصوصا أنه حزب غير راديكالي، بل هو معادٍ للراديكالية الإسلامية المجاورة.
ويبدو أن قادة حزب «العدالة والتنمية» التركي الصاعد، تحسبوا لردة فعل متعجلة، سواء فرصة من إسلاميي الحركة السياسية العربية والإسلامية، أو متوجسة من الغرب الأوروبي الأميركي وحلفائه العلمانيين الأتراك، تسارعوا فور تحقيق الفوز إلى زيادة الإيضاح إيضاحا، قبل أن تتعقد الأمور في طريقهم.
يقول زعيم الحزب رجب اردوغان صراحة، «حزبنا ليس حزبا إسلاميا، ولا يقوم على أساس الدين على رغم ما تدعيه الصحافة التركية، فالإسلام دين ولكن العلمانية أسلوب حكم وإدارة كما نفهم ونعتقد... وتركيا عضو في حلف الأطلنطي وفي مجلس أوروبا وفي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الغربي... فلماذا التخوف!».
أما الرجل القوي في الحزب ورئيس الوزراء الجديد عبدالله غول فيقول: «لسنا حزبا دينيا، ولكننا نريد أن نثبت أن المجتمع الإسلامي في تركيا، يمكن أن يكون ديمقراطيا وشفافا ومتوافقا مع العصر الحديث...».
كلاهما قال ذلك بوضوح وعزم، بينما كانت صورة بالغة الضخامة لكمال أتاتورك رمز العلمانية التركية، تغطي واجهة مقر حزب العدالة والتنمية، وكلمات الغزل والترضية تتدفق من قادته على المؤسسة العسكرية حامية العلمانية الكمالية من ناحية، وعلى الغرب الأوروبي الأميركي من ناحية أخرى، كما تقول مجلة «نيوزويك» الأميركية في عددها الأخير!
فماذا يعني ذلك؟
يعني أن الغرب عموما، وأميركا خصوصا، قد نجحا إلى حد كبير في إيجاد وسيلة فاعلة جديدة للخروج من مأزق «الإسلاموفوبيا» ذلك الذي انتعش بقوة بعد هجمات سبتمبر، وحول الإسلام والنخبة السياسية والدينية في أميركا، إلى قواعد صواريخ، تطلق قذائف حارقة مارقة ضد الإسلام والمسلمين، وأنتج ـ فوق موجة كراهية الإسلام والمسلمين ـ نظرية سياسية جديدة تقول بضرورة تدخل أميركا بحسم في شئون العالم العربي والإسلامي، لتحديث الإسلام وتطوير المسلمين، وفرض «الديمقراطية الغربية» فرضا... وهي نظرية يروّج لها بقوة على مدى الفترة الماضية، ولقيت ترحيبا حتى من قطاعات عربية وإسلامية كثيرة، يأسا من إصلاح الحال بأيدينا، مثلما دفعت وساعدت الأيدي الأميركية والأوروبية، على تشجيع بدائل مختلفة، للراديكاليات الإسلامية المتورطة ـ أو المتهمة بالإرهاب والعنف والتطرف ـ التي يجب أن تسقطها القوة الأميركية الساحقة الماحقة بقوة السلاح، كما أسقطت طالبان الأفغانية، قبل أن تدمر الحضارة الغربية المتسامحة!
ولقد كان أبرز البدائل المطروحة، هو بديل «الإسلام الحديث والمعتدل المتوافق مع الغرب والحداثة والديمقراطية»، المبتعد أيديولوجيا وسياسيا، عن «الإسلام الأصولي الذي ينشر روح العنف والكراهية بين أتباعه في العالم، تلك الروح التي ازدهرت نتيجة جذور الحقد لدى المسلمين ضد الحضارة الغربية ـ المسيحية اليهودية ـ التي قهرت الحضارة العربية الإسلامية بعد قرون من السيادة والهيمنة والتفوق على الغرب...» كما يقول برنارد لويس المفتي البازغ في أمور الإسلام والإسلاميين، في الساحتين الأميركية والأوروبية («واشنطن بوست» 10 سبتمبر 2002 ـ مقال برنارد لويس عن استهداف المسلمين للغرب بروح الكراهية). والخلاصة، أن التيار السياسي ـ الديني الجديد من الأحزاب الإسلامية الحديثة، التي بزغت خلال الشهور الأخيرة، في ست دول محيطة وقريبة، عبر الانتخابات وتحت راية القيم الديمقراطية الغربية ـ تلك التي كانت مدانة بالأمس من الراديكاليات الإسلامية ـ تدخل من الآن فصاعدا أهم التحديات وأخطرها:
- تحدي التوافق والاستجابة لتطلعات الشارع في دولها، ومدى قدرتها على تحقيق العدل والتنمية ومحاربة الفساد والديكتاتورية، بعد أن فشلت الأحزاب التقليدية.
- وتحدي التوافق والاستجابة لمتطلبات الضغط والإغراء الغربي وخصوصا الأميركي، المنادية بتحديث الإسلام، ونبذ الفكر الجهادي والتخلي عن التطرف والانغلاق، تطلعا إلى الديمقراطية الحديثة.
- وتحدي القوانين ـ أو التعارض على نظم حكم راسخة ـ وإن كانت قد شاخت ـ ونخب سياسية وحزبية فسدت وترهلت، ولكنها تقاتل معركتها الأخيرة بشراسة، دفاعا عن مصالحها وشرعيتها التي تآكلت.
- وتحدي حرب الكراهية ضد الإسلام والمسلمين التي يشنها الغرب صباح مساء، وخلاصتها أن هؤلاء برابرة متطرفون إرهابيون معادون للحضارة الغربية والحداثة الديمقراطية، «بحكم ما يلقنه لهم دينهم من عنف وكراهية».
تحديات معقدة تجري أمامنا، بينما «الأخ الأكبر» يراقب ويتابع، ويخطط وينفذ، وينتظر سقوط الثمرة ناضجة في حجره
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ