اعلنت قبل عدة أيام مؤسسة تعنى باختيار افضل الشركات المشغلة للاقتصاد المعرفي (MAKE) اسماء عشر شركات في شرق آسيا. وكان نصيب الاسد لست شركات يابانية وواحدة في كل من الهند وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وتايوان. والمؤسسة ذاتها تقوم باختيار (بعد اجراء استقصاءاتها) أفضل عشر شركات مماثلة في أوروبا واميركا. إلا ان المؤسسة المتخصصة لا تقترب إلى منطقتنا لاجراء اي استقصاء عن شركاتنا التي تعمل على أسس الاقتصاد المعرفي الذي بدأ يقود حركة الاقتصاد العالمي منذ الثمانينات. والشركات الاقتصادية-المعرفية تتنوع من نظم الاتصالات الى التعليم المتطور والرعاية الصحية والخدمات المالية وعدد من الصناعات الاساسية المعتمدة على تقنية المعلومات وغيرها الخدمات والصناعات. وهذه القطاعات تسيطر حاليا على نصف اقتصادات الدول المتقدمة. والدول التي تلتحق بركب التطور تستوعب هذا النمو الاقتصادي بسرعة هائلة، اذ تقدر مشاركة الاقتصاد المعرفي في الناتج القومي في سنغافورة بـ 57 في المئة، وهي نسبة متقدمة حتى على عدد من الدول الأوروبية.
والمؤشرات المستخدمة لقياس قدرة اقتصاد المعرفي الذي يجلب الثروة للبلدان متعددة. فبعضها يشير إلى قدرة بلد ما على انتاج المعرفة وهذه الدول قليلة وتتصدرها الولايات المتحدة واليابان. اذ تشير الدراسات إلى ان هذين البلدين لديهما القدرات الهائلة لتطوير وتنظيم الابداع على المستوى الوطني، والقدرات الهائلة على تحويل الاختراعات والتطويرات المختبرية إلى منتجات وخدمات، والقدرات الهائلة في تدريب وتعليم المواطنين الذين يعملون في التطوير والانتاج المستمر للسلع والخدمات.
وفي المقابل هناك الدول التي لديها القدرة على استيعاب التكنولوجيا المعرفية والقدرات المطورة عالميا وتدشينها لخدمة اقتصادها الوطني، ومن افضل الدول في هذا المجال هي دول شرق آسيا، لا سيما سنغافورة وماليزيا وغيرهما... بل ان هناك الدول المؤهلة لان تصبح قوى كبرى مثل الهند والصين، وكلاهما يعولان نجاحهما على قدراتهما في استيعاب وتدشين الاقتصاد المعرفي.
ومع كل النجاحات الكبرى لسنغافورة فإن الحكومة هناك تتحدث بصورة ناقدة عن نفسها وتدعو لتدشين خطة اوسع لبلادها لكي تستمر في اللحاق بالدول المتقدمة. إذ تتحدث عن ضرورة تقييم الخطة التعليمية للمواطنين على المدى البعيد بحيث يتم تجيير كل مادة تعليمية لخدمة الاقتصاد المعرفي، كما تتحدث الحكومة السنغافورية عن وسائل الاقتصاد المعرفي واهمها شبكة الاتصالات والانترنت واجهزة الكمبيوتر والمعدات الرقمية، وتشير الخطة السنغافورية إلى ضرورة ترخيص الاسعار وتوفير كل هذه الوسائل الرقمية والاتصالاتية لجميع المواطنين بأزهد الاثمان، مبررة ضرورة ذلك للاستمرار في اللحاق بعالم متطور يعتمد على قدرة مواطنيه في استيعاب المعلومات وتطويرها وانتاجها كمعرفة مفيدة لهم يستخدمونها في زيادة ثرواتهم وتطوير اقتصادهم.
والحديث عن سنغافورة من دون غيرها لانها بلد يقارب حجم مساحته بلادنا وليس لديها اي مصادر طبيعية مهمة، كما هو حالنا، ومع ذلك فإن شعبها اصبح دخله افضل من الدخل المتوافر لعدد كبير من الدول الأوروبية والمتقدمة. ومع كل ذلك التطور، فإن سنغافورة مازالت ترى العوامل البعيدة المدى لاستمرارها في الانتعاش يكمن في تطوير وتجيير البرامج التعليمية التي توفرها الحكومة للمواطنين، وفي توفير جميع المعدات والخدمات المعلوماتية والرقمية لهم بحيث يتمكن الطفل الذي يدخل الحضانة في سن الخامسة من ان يستخدمها ويتقنها لكي يمارس دوره المنتج اقتصاديا.
ولاشك فإن هناك قرارات جريئة مطلوبة لتحقيق مثل هذا الطموح وتتمثل في صوغ استراتيجية واضحة لتطوير مواهب المواطنين واعتماد مبدأ المساواة والكفاءة اساسا للتقدم الحياتي وإلغاء الاعتبارات العنصرية التي حرّمها ديننا الاسلامي والمواثيق الدولية التي تفرق بين المواطن واخيه المواطن على اساس المذهب او العرق او القبيلة، كما يتطلب الامر اعادة النظر في تكنولوجيا الاتصالات والكمبيوتر والانترنت الموفرة للشعب، وكسر اي احتكار لها، وتنزيل اسعارها إلى درجة تمكن افقر الناس من امتلاك جهاز كمبيوتر والاتصال بالانترنت والارتباط بعالم اليوم... وما دون ذلك، فلن نحتاج ان نلوم المؤسسة المتخصصة التي لا تأبه المجيء إلى بلداننا لاختيار افضل الشركات المعرفية، لاننا مازلنا بعيدين عنها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ