فنانون كثر تقف مدهوشا أمام أعمالهم التي تحمل مضامين ودلالات وحمولات معرفية غاية في العمق تكشف عن أداء ورؤية هي في الذروة من فسحة التأمل والتقاط المهمل من التفاصيل التي يمنحها الفنان مكانة خاصة تنفي عنها وصمة التفاهة واللاجدوى. لكن في المقابل بين أولئك النفر - لمجرد محاولتك استدراج أحدهم للتعبير عن مكنونات تلك الأعمال بكل ما تضج به من مضامين ودلالات وحمولات - تجده مشوِّها فريدا لما أنجز، وسرعان ما تشعر بحال من انفصال تلك الأعمال عن سياقه هو... سياقه البليد والسطحي بل والغبي، وكأن ذلك الصنف من الفنانين خلق لينجز أعمالا في حال غياب عن الوعي عما ينجز، وهو غياب لا يعني فيما يعني، حضورا فذا وملموسا أثناء المباشرة في إنجاز العمل، ومن ثم عليه أن «يصمت»... ألاّ يرتكب جريرة «السرد» والتوصيف لأنه يصبح بذلك عاجزا عن الوفاء لذلك العمق والنبرة العالية التي تكتنف أعماله.
ولا يقتصر الأمر على الفنانين التشكيليين وحدهم، فثمة شعراء من الخير والسلامة لهم أن ينجزوا نصوصهم ويصمتوا وألاّ يقعوا في فخ استدراجهم من قبل أي منبر اعلامي لتوصيف هذه العملية المعقدة والمثيرة، وأعني بها التعامل مع النص والنظر إليه من داخل العملية الإبداعية، اذ عندها يتكشف أيضا السطحي والبليد ذاته وبعبارة أكثر تأدبا «الغبي»!.
هل ثمة اتكاء يحدث هنا... على النص؟ هل يكتفي الفنان أو الشاعر أو... بمعرفة الآليات والمنافذ وربما الشروط - على رغم التحفظ الشديد على الأخيرة - التي ينجز بها الفنان لوحته، والشاعر قصيدته، والموسيقي مقطوعته في عملية تشبه اختزال معرفة ما ينجز من دون أن يقوى على التعبير عن كل ذلك لحظة وقوعه تحت استدراج ما يبدر هنا وهناك؟
من المفترض أن تعبِّر اللوحة عن رؤية الفنان إلى العالم من حوله بكل بشره وأشيائه، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى انه ليس من الضروري أن ينشدّ الفنان لمقولة «المرآة في الفن»... وتحطيمه لها يعني انبعاث فنه من قضايا جدلية ومحورية في العالم والمحيط الذي يتحرك فيه، ويشمل ذلك قضايا قد لا يتفق معه فيها كثيرون، فمقولات مثل «الفن مرآة الشعوب» لم تعد قادرة على الصمود أمام الدور والتأثير الذي تمارسه الفنون في عالم اليوم وقيام اقتصاديات له، كل ذلك لا يمكن التغاضي عنه، علاوة على تجاوز الفنون التشكيلية اليوم للمفاهيم الجامدة والثابتة التي ظل معظم فنانينا يجترونها في الكثير من أعمالهم .
أمام هكذا حقائق تبرز ضرورة الدربة والمران اللذين يجب على الفنان التشكيلي أو الشاعر أن يأخذ بهما قراءة وتجليا وانفتاحا على الكثير من ضروب المعرفة والثقافات، وهو دور ليس هيِّنا، على الأقل كي لا يبدو الفنان أو الشاعر في وادٍ واللوحة والقصيدة في وادٍ آخر من حيث التأسيس والحمولات والدلالات، إذ في الحد الأدنى من كل ما طرح هنا، على الفنان أن يكون جاهزا لاستكناه واستشفاف العوالم التي يكون طرفا في صوغها
العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ