منذ إقامة دولة «إسرائيل» فوق أرض فلسطين العربية بالقوة العسكرية الغاشمة العام 1948 وعلى مدى سبعة عقود متصلة، عجزت هذه الدولة أن تقيم علاقات طبيعية وحسن جوار مع محيطها الجغرافي، ومازالت الدول العربية كافةً تجمعها عهود سارية المفعول، ولو على الورق، بمقاطعة هذه الدولة العبرية في مختلف المجالات، بل تكاد «إسرائيل» هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتفرد بهذه الحالة الشاذة في نبذ كل دول الجوار لها، والأهم من ذلك فإن كل الدول العربية دون استثناء، وبضمنها الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان وقعتا مع «إسرائيل» معاهدتي صلح وسلام (مصر والأردن)، تعلم جميعها باستحالة إقامة أي شكل من أشكال التطبيع مع هذه الدولة الصهيونية العنصرية وشعوبها.
بل ولطالما كان إقدام أي نظام عربي على انتهاك هذا الثابت من الثوابت والمواقف المُقدسة العربية، أمن الدولة اليهودية مثار توتر بينه وبين شعبه، وهذه الحقيقة مثلما تعلمها جيداً الحكومات العربية تعلمها أشد العلم «إسرائيل» وحليفتها الدولية الولايات المتحدة. ومن عجب لا تجد هاتان الدولتان أي حرج من استجداء التطبيع والصداقة مع الدول العربية أو على الأدق الضغط عليها لقبوله حتى لو كان ذلك ضد إرادة شعوبها، فـ»إسرائيل» لا تترك أي قناة حيثما تواتيها الفرصة للولوج منها على الساحة الدولية لفرض هذا التطبيع ، سواء أكانت قناة دبلوماسية أم تجارية أم ثقافية أم إعلامية وحتى رياضية.
لكن لو أخذنا تجربة محاولات الدولة الصهيونية الكثيرة لفرض التطبيع الثقافي مع الشعب المصري ونخبته طوال أربعة عقود منذ توقيع الرئيس أنور السادات معها اتفاقيات كامب دافيد العام 1978، لوجدناها قد باءت جميعها بالفشل الذريع، لإجماع هذا الشعب ونخبته الثقافية على التصدي بقوة لتلك المحاولات البائسة، ومنها محاولاتها العبثية المتكررة للمشاركة في معرض القاهرة الدولي السنوي، ولعل ذلك يُعد خير برهان لتعلم «إسرائيل» كم هي منبوذة في عالمٍ عربي يتكون من أكثر من 22 دولة عربية، ويصل تعداد شعوبه زهاء 400 مليون نسمة.
نموذج آخر يمثله لبنان وهو أكثر قطر عربي تعرّض على امتداد نصف قرن لاعتداءات «إسرائيل» الوحشية المتكررة منذ هزيمة 1967 بأبشع الأسلحة فتكاً، والمعبرة عن حقدها على شعب هذا القُطر، هو الذي أجبرته مقاومته الباسلة العام 2000 على انسحاب قواتها الغازية انسحاباً ذليلاً، ورغم تمكّنها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) من نسج تحالفات مع أحد طرفي الحرب ودعمه بالمال والسلاح، ألا هو الطرف الماروني المسيحي اليميني، ضد الطرف الآخر، تحالف الحركة الوطنية اللبنانية مع المقاومة الفلسطينية، ولكن أين باتت هذه العلاقة اليوم؟ فهل يجرؤ مجرد رمز واحد فقط من رموز هذا الطرف الماروني اليميني أن يتمادى في إقامة مثل هذه العلاقة الخيانية مع «إسرائيل» التي كان يُمعن بلا خجل في التواطؤ معها إبان الحرب؟ يكفي اليوم لإسقاط سمعة أية شخصية لبنانية، سياسياً أم مثقفاً أو فناناً، لأي غرض إثارة الشبهة بأن له علاقة مع الدولة العبرية ولكي تقوم الدنيا ولا تقعد على الساحة اللبنانية.
مثال ثالث ما جرى لدينا، إذ فشل فشلاً ذريعاً بالون الاختبار الذي حاول الوفد التجاري اليهودي الصهيوني الأميركي في زيارته في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وتمادى في استفزاز مشاعر الشعب في قلب عاصمته المنامة، حيث ووجه باستنكار شديد أجمعت عليه كل فئات الشعب والقوى السياسية، الأمر الذي قد يكون درساً تاريخياً مفيداً للوفد ولـ»إسرائيل»، ولعالمنا العربي برمته، حين التفكير باستضافة أو تقديم تسهيلات لمثل هذه الوفود المشبوهة وذلك بالكف عن تجريب بالونات الاختبار مع الشعوب العربية من خلال استدراجها إلى فخ التطبيع.
ومنذ أول قمة عربية طارئة عُقدت في مصر 1946، قبل نيل معظم الأقطار العربية استقلالها، وحتى القمة الأخيرة التاسعة والثلاثين في الأردن الأسبوع الماضي، ظلّت القضية الفلسطينية بنداً ثابتاً ورئيسياً على جدول أعمالها، بغض النظر عن الهبوط التدريجي لمستوى القرارات المتخذة بشأنها منذ السبعينات. ونحن نعلم جيداً أن من أبرز ما تذرعت به الأنظمة القومية العربية لتأجيل الاستحقاقات الديمقراطية لشعوبها، انشغالها بما تسميه قضية العرب المركزية فلسطين وتحريرها، بل إن البيان الثوري الأول لانقلاباتها العسكرية التي أسمتها «ثورات وطنية»، كان يستمد جزءاً من مشروعيته مما يسميه بتخاذل الأنظمة «الرجعية» السابقة عن نصرة القضية الفلسطينية وتواطئها مع الاستعمار الغربي عليها، وهذا ما مكّنها من تعويض شيء من شرعيتها الدستورية المغيّبة طويلاً، بحجج شتى ومنها الشعارات القومية لما لها من صدى وتأثير قوي في دغدغة مشاعر الشعوب العربية في هذا الشأن.
ماذا نستخلص إذاً من كل ما تقدم؟ لعل أبرز دلالة مستخلصة من كل ما تقدم أن التمسك بمقاطعة العدو الاسرائيلي من أسس مشروعية الدولة العربية، التي كانت تستمدها من رضا شعبها ومراعاة مشاعره القومية والدينية النابذة للتطبيع مع العدو الصهيوني، وإذا كانت تحترم حقاً تعهداتها العربية في هذا الشأن على مستوى الجامعة العربية، وبالتالي فمن الأفضل للدولة العربية ألا تمعن في استفزاز شعبها بانتهاك قرارات المقاطعة، وخصوصاً في مثل هذا الوقت الذي تواجه فيه تحديات داخلية مختلفة بالغة الدقة والخطورة، حيث تتفاقم أزماتها الاقتصادية المتشابكة مع استحقاقات إصلاحية ودستورية مُغيّبة، وأوضاع معيشية متدهورة لدى السواد الأعظم من شعبها لا يلوح أي بصيص من الأمل لحلحلتها في المستقبل المنظور.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5323 - الإثنين 03 أبريل 2017م الموافق 06 رجب 1438هـ
في زمن تحول العدوا إلى صديق ...وانتقلب الصديق إلى عدو