نبّهت المقالة السابقة إلى التأثير الذي أحدثته كلية الفقه في مدينة النجف العراقية على طلبتها في العناية بتراث البحرين العلمي، وسنشير اليوم إلى ما يمكن أن نعدّه حلقةً من حلقات هذا التأثير، وذلك من خلال الدور الذي قام به «القاضي المميز» الشيخ عبد الحسين الحلي (ت 1956م/ 1376هـ)، وهو من الشخصيات التي لعبت دوراً في إسناد جهود صديقه الشيخ محمد رضا المظفر في كلية الفقه، وكان الحلي أقرب ما يكون إلى المستشار العلمي للكلية ومنتداها، وكان صاحب مكانة علمية نافذة ورأي مُقدّر، ولم تنقطع صلاته بتلك الكوكبة من العلماء والأدباء الذين كانوا نجوماً تُضيء سماء النجف علماً وأدباً حتى وهو يكابد مرارة البُعد عن مسقط رأسه ويعالج قسوة الاغتراب – وهو في البحرين - بقرض الشعر وتزجية الوقت - بعد الانتهاء من مهامه القضائية - بالقراءة والتأليف وتحقيق الكتب، الشيء الأكثر إيناساً له في غربته الطويلة.
ويمكن بسهولةٍ رصد التأثير الذي أشاعه الشيخ الحلي في من حوله من المثقفين والوسط الديني في البحرين، خصوصاً لدى طلبته في المدرسة الدينية التي تعهّدها بنفسه في مسجد الخواجة في العاصمة المنامة، وقد نقل لطلبته دون شك، اهتماماته العلمية والأدبية وشغفه بقضايا الشعر والأدب والتاريخ. وكان إلى جانب كونه فقهياً مرموقاً، من كبار الشعراء، مبرزاً في البحث والتحقيق، وكان معنياً بالتراث المخطوط، ومن دلائل هذه الهمة تقديمه وتحقيقه الجزء الخامس من كتاب «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» للشريف الرضي، الذي نُشر عام 1936. والذي ألّفه الشريف الرضي سنة 1011م/ 402 هـ، ولم يُعثر منه إلا على الجزء الخامس، رغم أنه يقع في عشرة أجزاء، وهذا جزء من فداحة المحنة التي تعرّض لها تراثنا.
وكان الحلي قد كتب بحثاً عن «حياة الشريف الرضي»، قبل أن تختصره اللجنة العلمية في منتدى النشر، وتنشره في مقدمة الجزء الخامس من «حقائق التأويل»، ثم طبعت مستقلةً في النجف الأشرف سنة 1936، ثم طبع طبعةً أخرى في بغداد عام 1968. وحينما ألّف «الدكاترة» زكي مبارك كتاب «عبقرية الشريف الرضي» جعل من بين مراجعه «ترجمة الشريف للأستاذ عبد الحسين الحلي – المنشور تصديراً لكتاب حقائق التأويل»، حيث قال: «وكان في النية أن أكتب فصلاً عن الشريف الرضي مؤلفاً... ثم رأيت الوقت أضيق من أن يجود بدراسة أنفع من الدراسات التي قام بها (منتدى النشر) حيث طبع كتاب (حقائق التأويل)».
شخصية أخرى كان لها تأثير لا يقل عن تأثير الشيخ الحلي في البحرين، هي شخصية السيد عبدالزهراء الحسيني الخطيب (ت 1993م/ 1414هـ) الذي اضطر إلى الخروج من العراق إلى البحرين مروراً بالكويت، وقد مكث في البحرين ما يقرب من السنتين ونزل طيلة هذه المُدّة ضيفاً على صديقه الوفي الشيخ محمد علي زين الدين في الدراز، والأخير من تلامذة الشيخ عبد الحسين الحلي، واضطر لتركها عام 1982 متوجهاً إلى سورية التي اختارها مقراً لإقامته.
ويُعدّ الحسيني من كبار المُحققين الذين برز نشاطهم منذ أواخر ستينات القرن الماضي، وعُرف بسعة الاطلاع، وكان يقرأ الكتب المطبوعة لأكثر من مرة، مما وفر له اكتشاف محاولات التحريف والتصحيف المتعمّدة وغيرها، وهو ما دفعه إلى التفكير بمشروعه الضخم «التصحيف والتحريف» والذي قُدّر له أن يكون في عشرة أجزاء.
ومن اللافت أن جُلّ ما كتبه السيد الحسيني وخاصة المطبوع من آثاره، كتبه في أسوأ الظروف وأكثرها حراجةً بالنسبة له؛ ففي دار هجرته البحرين وسورية بعيداً عن الأهل والأبناء ومكتبته العامرة نهض بتحقق كتاب «منار الهدى» للشيخ علي الستري (ت 1319هـ)، و»الشافي في الإمامة» للشريف المرتضى (ت 436هـ)، و»الغارات» لأحمد البصري (ت 368هـ)، وشرح كتاب «شرائع الإسلام» للمحقق الحلي (ت 676هـ).
ويدور موضوع كتاب «منار الهدى» بشأن الإمامة عند الفكر الإمامي من الناحية الكلامية والتاريخية، وقد عالج فيه المؤلف قضايا كثيرة ذات صلة بالموضوع، مدعّماً بالنقل والعقل. وشكّلت محاوره مدخلاً مناسباً للرد على ابن أبي الحديد المعتزلي، والقوشجي الأشعري.
واتفق أن اطلع عليه الحسيني أثناء إقامته في البحرين فاستهوته مطالب الكتاب ومسائله، وقد ذكر قصته مع هذا الكتاب بقوله: «أما صلتي بـ(منار الهدى) وعملي فيه، فإني كنت قد اطلعت على هذا الكتاب مصادفةً قبل أربعين عاماً في مكتبة أحد الأعلام في كربلاء، فتصفحت جملاً من فصوله في صفحات مختلفات فاستحسنت بعضها، وراقني كثير منها، ثم لم أره بعد ذلك إلا قبل ثلاث سنوات أثناء إقامتي في البحرين فهاجت بي الذكرى، وأخذني الحنين إلى أيام الشباب، فأعدتُ النظر فيه، فرأيت أن أُخرّج مصادره، وأعلّق عليه، ففطنتُ لشيءٍ فيه هو أن المؤلف قوي الحجة، ناصع البرهان، إلا أن في لهجته شيئاً من الغلظة والشدة على خصميه – المعتزلي والقوشجي – كنتُ أتمنى لو أنه كان ليّن العريكة معهما. فرأيت أن أخفف منها، وألطف بعضها بشيء من التنقيح على عبارات المؤلف ما وجدت إلى ذلك سبيلا». ونصّ الحسيني هذا يكشف عن جزء يسير من اهتماماته وشغفه بالتراث المخطوط.
والأمر المؤكّد، أن وجود هاتين الشخصيتين في البلاد، وما عُرف عن مكانتهما ونشاطهما العلمي، وصلاتهما المتينة بالطبقات الاجتماعية المختلفة، خصوصاً العلمية والأدبية منها، لاشك أنه أشاع نوعاً من الوعي التاريخي عند البحرينيين وفتح أذهان الجيل الشاب على التراث العربي والإسلامي في البلاد، ومهّد الطريق لبروز عددٍ من المشتغلين بالتحقيق، وهي عملية أثمرت ظهور جزء من التراث العلمي المخطوط والمغيّب أو المركون – لسنوات طويلة - في الزوايا والمكتبات الخاصة في داخل البحرين وخارجها.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5323 - الإثنين 03 أبريل 2017م الموافق 06 رجب 1438هـ