العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ

مأزق أردوغان وأغاجاري و«مصباح ديوجنيس»

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

يقال في فلسفة الزمان والمكان: ندر أن يكرر التاريخ نفسه، ويقال في علم الصيرورة والتحول: إن الإنسان لا يغتسل في ماء النهر ذاته مرتين. ولكننا - في حالات استثنائية - نضطر إلى أن نكرر الفعل ذاته الذي كان يأتيه الحكيم اليوناني ديوجنيس (214/ 323 ق.م) حين كان يحمل مصباحه في عز النهار وفي ضوء الشمس باحثا عن «الحقيقة».

الآن، يحتاج أردوغان وأغاجاري إلى مصباح «ديوجنيس»، وبعد ثلاثة وثلاثين قرنا في مطلع الألفية الثالثة.

فحزب رجب طيب أردوغان (العدالة والتنمية) فاز في الانتخابات التركية التي أعلنت نتيجتها بتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، والفوز ساحق بغالبية مقاعد البرلمان حتى إنه لا يحتاج إلى حليف لتأليف الوزارة وفق كل شروط «الآلية» الديمقراطية.

غير أن أردوغان محروم من حقوقه الدستورية بشرط «العلمانية» لأنه أنشد من قبل وفي احتفال عام موشحا دينيا في مدينة اسطنبول، لعلها ـ القصيدة ـ كانت من مخيال جلال الدين الرومي أو ابن عربي أو ابن الفارض.

ولأن عسكر تركيا لا يعرفون هذه الأسماء ـ بحكم علمانيتهم ـ فإنهم لا يدركون مدى تسامح هؤلاء، وبما يتجاوز الليبرالية والديمقراطية تعلقا بكمالات الإنسان أو «الإنسان الكامل». فالعلمانية بالنسبة إلى هؤلاء هي معرفة «الظاهر» من الحياة الدنيا، وكما وردت الآية في سورة «الروم»: «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون»، (الروم/ ج21/ ي7).

ولأن عسكر تركيا لا يعرفون فقه الإمام أبوحنيفة النعمان (المتوفى العام 150هـ) - الذي يدين بمذهبه الأتراك - فإنهم لا يدركون أن هذا المذهب مؤسس على «الرأي» خلافا للمذاهب المؤسسة على «النقل».

فتركيبة أردوغان بحكم تركيبة تركيا نفسها هي جماع بين «حجية الرأي» الحنفي وتسامح التصوف الرومي، وذلك سقف فكري وروحي لم تبلغه علمانية أوروبا ولا ليبراليتها.

لأن علمانية أوروبا فصمت الإنسان وبوتقته في لحظة دهرية عابرة، غافلة عن امتداد الإنسان الكوني، ما قبل الميلاد وما بعد الموت: «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون»، (البقرة/ ج1/ ي28) وكذلك: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل»، (غافر/ ج24/ ي11).

فالذين يحاربون أردوغان وكما حاربوا من قبل أربكان إنما «يَتَعْولمون» لظاهر وبظاهر من الحياة الدنيا كما تقول سورة «الروم» ويغفلون عن قيمة الرأي لدى الأحناف وطهر التصوف لدى ابن الرومي.

لهذا لا يملك أردوغان سوى أن يحمل مصباح ديوجنيس عله يستهدي على هذه العلمانية التي تحرمه من حقوقه الدستورية. فهو لم يأتهم برأي المودودي أو سيد قطب حول «الحاكمية الإلهية» ولا حاكمية «الاستخلاف» كما كانت لداود وسليمان «عليهما السلام» وإنما أتاهم بما يُستمد من «الكتاب». فهل ميّز هؤلاء بين «حاكمية إلهية مباشرة عبر الأنبياء» ولا تكون لغير الأنبياء، وبين «حاكمية استخلاف» ولا تكون أيضا لغير الأنبياء المستخلفين، وبين «حاكمية كتاب» تتسع للوجود الكوني وحركته، (إرثا) عن خاتم الرسل والنبيين، صلى الله عليه وسلم، وللناس كافة؟

ويحتاج أردوغان أيضا إلى مصباح «ديوجنيس» ليعرف حقيقة «الليبرالية» التي تناقض «قيمة الرأي» لدى أبي حنيفة النعمان. فأردوغان لم يأتهم برسالة «الأصول» للإمام الشافعي، ولم يُلْبس الدين «لاهوتا» ولا طرح أمامهم «تراتبا كهنوتيا»، فليبراليتهم هي من حرية الرأي لدى أردوغان، غير أن ليبراليتهم ذات «نسق غربي» وحريته ذات نسق إسلامي. فليبراليتهم «تفكك» الإنسان لتجعل منه فردا غريزيا خارج إطاره العائلي والإنساني والمجتمعي، وحريته «تركب» الإنسان عائليا وإنسانيا واجتماعيا بل وكونيا.

ثم إذا كانت ديمقراطيتهم هي «تقنين الصراع» سياسيا واجتماعيا بين أحزاب متصارعة بحكم التأسيس الطبقي للنظام السياسي، فإن ديمقراطية أردوغان تستهدي «بالسلم» كافة وليس بصراع الكافة: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين». (البقرة/ ج2/ ي208).

قد صارعهم أردوغان بقانون الديمقراطية التي «تقنن» الصراع فصرعهم، وهذه هي «الجولة الثانية» بعد جولة أربكان «الأولى» فهل إلى خروج من سبيل؟ والرجل يتكئ على مذهب الرأي؟ وسماحة التصوف؟ وحاكمية الكتاب؟ والسلم للناس كافة؟

و«يقاربهم» في ليبراليتهم وعلمانيتهم وديمقراطيتهم، فإن أزاحوه، فهل توقعوا البدائل؟ بدائل مدرسة الرأي والتصوف وحاكمية الكتاب والسلم للناس كافة؟

وقتها لن يستطيع أردوغان نفسه أن يمنع تلك البدائل.

ويحتاج أغاجاري إلى المصباح أيضا، ولا أعلم تحديدا - على الأقل حتى الآن - ما قاله أغاجاري ليستوجب «حكم الإعدام»، والسجن قبل الإعدام، ليتراءى له ـ عبر ثماني سنوات مقبلة ـ أكثر من حبل يتدلى كل يوم أمام ناظريه.

ولا أبخس نفسي حظها غير المتواضع من العلم، بأحكام «الردة» وما ساقه الشيخ المرحوم محمد الغزالي حولها، إن كانت هناك «ردة» ولها أحكام بعد حكم الله ـ سبحانه ـ في من ارتد من بني إسرائيل وعبد العجل الأصفر الذهبي الذي كان له خوار. ولا أدري ردة أغاجاري، أهي عن «مذهب» في الدين، أم عن «الدين»؟ وهل أغاجاري - على شيء - من المذهب أو الدين أم «ليس على شيء» مذهبا ودينا؟

فقد قالت اليهود من قبل إن النصارى ليسوا على شيء، فأخرجوهم بالمطلق عن الدين وعن التدين، ورد النصارى بأن اليهود أنفسهم ليسوا على شيء بالمطلق، فجردوهم من الدين والتدين، فنبههم الله - سبحانه وتعالى وهو خير العالمين بهم - أنهم يتلون الكتاب، وأنهم كغيرهم لا يعلمون حقيقة هذا القول والادعاء المتبادل: «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»، (البقرة/ ج1/ ي113).

فحتى إن قال أغاجاري إن أهل مذهبه ليسوا على شيء، فهل كفّ هو عن تلاوة الكتاب؟ أم مازال يتلو الكتاب؟ فإن كان مازال يتلو الكتاب ـ وهو يتلوه ـ فهو «على شيء» ومن يتهمه بأنه ليس على شيء ويستبيح دمه مثله مثل «الذين لا يعلمون». فهل يريدون من بعد القرآن فصلا للخطاب؟

إعدام أغاجاري إعدام لأردوغان

إذا تم ـ لا سمح الله ـ إعدام أغاجاري لأنه في عرف من سيعدمونه «ليس على شيء» فإن علمانيي تركيا وعسكرها سيتحسسون رقابهم، فإعدام أغاجاري ليس حكما عليه في شخصه ولكنه حكم على «نهج الدين والتدين» في علاقته بالسلطة والسياسة. ولن يفرح لهذا الحكم أكثر من علمانيي تركيا وورثة مصطفى كمال أتاتورك. فتلك حجتهم على الدين والتدين، وحجتهم في «الجولة الثانية» من المواجهة مع إسلاميي تركيا حتى يستطيب الاتحاد الأوروبي دخول تركيا أروقته من دون رجب ـ الطيب ـ أردوغان.

ذلك عدا ما يكون من تأثيرات على الثورة الإسلامية في إيران، وهي ثورة عشقناها منذ لحظاتها الأولى، وكنا حماة لها في «ثغورها» فقلنا والقول موثق ومشهود على صفحات «الفجر» في «أبوظبي» طوال الأعوام من 1979 وإلى 1988 ما لم يقال حتى في إيران نفسها، وأردفنا القول بالقول طوال شهر كامل من العام 1989 بين أبناء الشهداء وقادة الثورة من الشباب في طهران وفي شيراز وفي أصفهان. وبوجه كل الضغوط الإقليمية والدولية أطلقناها صريحة في أول عدد أصدرناه من مجلة «الاتجاه» في قبرص بتاريخ الأول من يونيو/ حزيران 1989 أنه «لا استقرار خليجيا وأمنيا من دون تنسيق سعودي ـ إيراني»، وهذا ما تم بعد عشر سنوات.

وبالقوة نفسها نقول، لا تعدموا أغاجاري لأنكم ستعدمون أيضا أردوغان

العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً