العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ

إذا فسد الملح فبماذا يُملّح؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هكذا يقول الانجيل... وإذا فسدت الأقلام فمن يقوم بدور الضمير الحي ليعيد للكلمة شرفها وصدقيتها وهيبتها في النفوس؟

كثر الحديث عن الفساد الإداري والمالي، والرشوة والمحسوبية... بعد أن كان يدور في السر ولا يجرؤ أحد على الكتابة عنه إلا بطريقة: «طال عمرك سيدي بس هذا الشيء يمكن ما يكون كلش زين!». أما الآن في زمن الشفافية فقد أصبح الكل شفافا، وكثر «شجعان» الكلمة واستأسدت بعض الأقلام التي عرفها الناس طويلا بالميوعة والنفاق. وهو داء مستوطن في جزء لا يستهان به من صحافة الفترة السابقة، التي دأبت على تزيين كل ما تقوم به الحكومة وتسويقه على الناس على اعتبار انه قمة الحكمة وفصل الخطاب.

وإذا أردنا تجديد روح المجتمع فلابد ان نراجع ملف الصحافة وممارساتها السابقة، فهي الوجه الآخر الذي يعكس سلبيات المرحلة السابقة التي يقف الجميع اليوم لمراجعتها ويتفق على ضرورة تجاوزها وتصحيح أخطائها.

والجسد الصحافي نفسه لا يخرج عن دائرة المحاسبة، فهو يتكلم اليوم كثيرا عن محاربة الفساد وينسى نفسه. هذا القطاع أشبه بالموظف البيروقراطي المتكرش الشبعان، الذي احتل الكرسي لمدة عشرين أو ثلاثين عاما، فيرى نفسه فوق المساءلة والقانون.

طبعا هناك مآخذ على الأداء الصحافي في البحرين من ناحية حرفية بحتة، ولكن هذا لن يكون مجال الحديث، مع أن أحد المراقبين العرب خلص إلى رأي مهم مفاده ان طريقة عمل الصحافة المحلية أدت إلى تأخر الصحافة ثلاثين عاما إلى الوراء، وهو حكم قاسٍ جدا من خبير صحافي عربي كبير، يهمنا أن يسمعه الجميع. وإن كان لنا من تحفظ على هامش هذا الرأي فهو ضرورة إضافة عامل آخر مهم أيضا، وهو سقف الحرية، فمن دون الحرية ما كانت بيروت ستتسيد الساحة الثقافية والصحافية لفترة طويلة. فلا صحافة حقيقية من دون حرية حقيقية، واقرأوا إن شئتم تاريخ الصحافة في العالم لتصلوا إلى هذه الحقيقة الناصعة كالثلج. حتى لو كانت الصحيفة تطبع بالملايين في دولة كالصين أو الاتحاد السوفياتي السابق، فإنه لا ينظر إليها على أنها أكثر من بوق للحكومة أو الحزب. بينما الصحف الغربية الحرة لها احترامها وصدقيتها لأنها تقوم بدورها وواجبها حسبما تمليه عليها أصول المهنة.

المزاجية

ومما يؤسف له أن تستمر الأمراض القديمة نفسها المستوطنة في الجسد الصحافي. من بينها مرض «المزاجية»، فإذا كان صاحبنا مرتاحا هذا النهار فسيتحف القراء بما يسليهم غدا، أما إذا كان متعكر المزاج فسينكد عليهم صباح غد. وهكذا تتحكم المزاجية في الموضوع، إذ على الكاتب أن يملأ خانته المخصصة بأي كلام، و «من العيب يا رجل أن تعتذر - وأنت الكاتب الكبير - للقراء في يوم من الأيام باحتجاب عمودك لعدم وجود ما يمكنك الخوض فيه». إنها «فشيلة» كبرى، مع أن الكتابة فعل واعٍ ومدروس، وينبغي ألا يخضع إلى تقلبات المناخ. صحيح ان العمود يمكن أن يتناول قضايا واسعة على اتساع المجتمع وقضاياه، ولكن هذا لا يعني أن يتحول الكاتب إلى «حطيئة» آخر، فإذا لم يفتح الله عليه بشيء أخذ يحدث الناس عن حماته وقطته وكلبه. ولئلا تصبح الكتابة «كالنار تأكل بعضها... إن لم تجد ما تأكله» كما يقول الشاعر. وفي هذه الحال لا يفتح القارئ عينيه على مادة مفيدة، وإنما على ما يثير اشمئزازه ويسبب له «غثيان الصباح»!

ولا مخرج من هذه المصيدة إلا بالتواضع، فإذا لم أجد ما يستحق الكتابة فلماذا أصر على «إتحاف» القراء بكل ما يعرض علي من وساوس وهواجس وخواطر ومشكلات ضيقة لا تتعدى إطار المنزل أو «الفريج»؟

كتابة بالروموت كونترول

من المعروف في الوسط الصحافي أن بعض الأقلام تكتب بحسب توصيات، وتتلقى أوامر من هنا وهناك، وبذلك تهبط هذه الممارسة بها من مرتبة «صاحبة الجلالة» إلى خادمة في البلاط، وفي أحسن الظروف إلى وصيفة من وصائف الملكة. وشتان بين المرتبتين. ومع ذلك، فإن لذلك العمل أُجرته، فتصل الشيكات الشخصية، والهدايا والمنح و«الخيرات والبركات». بل ان بعضهم يهبط بالمهنة إلى ما دون مستوى الخدم، عندما يقبل الرشوة في صورة ساعة يد مذهبة، أو إطار نظارة فضي آخر موضة، قيمته لا تتجاوز مئة دينار، وأحيانا يقبل قنينة عطر قيمتها ربع ذلك. وإذا هانت النفس على صاحبها بهذه الصورة فلا يرتجي الشعب أن يقف القلم إلى جانبه أبدا، مادام هواه يميل نحو الذهب والفضة.

طبعا أود أن أسجل أن هذا الكلام ينطبق على فئة من العاملين بالمهنة ولا يمكن تعميمه لوجود الشرفاء والنزيهين والنظيفين، وهم كثر.

خمريات الصحافة

في كتاب للكاتب البحريني الراحل مبارك الخاطر، رحمه الله، أشار إلى أحد رواد الصحافة قبل ستين عاما، وذكر أنه كان يكتب وقنينة الخمر تحت رجل طاولته.

في الستينات أو مطلع السبعينات كان واحد من شيوخ الصحافة مسافرا عبر المطار، وأثناء التفتيش سقطت من تحت «بشته» قنينة خمر وانكسرت فاندلق ما فيها وفاحت الفضيحة.

مرة أخرى، هذه مشاهد أخرى من الصورة، لا تعني التعميم، وإنما الانتباه إلى الأرضية الأخلاقية التي يقف عليها بعض حملة القلم، الذين يتطلع إليهم الشعب للتعبير عنه وحمل همومه، فتراهم يقفون في الصف الأول للغزو الغربي والمبشرين الأوائل بتقاليده و«مقدساته»!!

وأمور أخرى

وغير ذلك، من تحوم حوله الشبهات بالتورط في «الفري فيزا» والمتاجرة بالرقيق الأبيض والشقق الموبوءة «المفروشة». فإذا كان صاحبنا متورطا بهذه القضايا فهل يمكن أن يكتب بصدق وأمانة عن أية ظواهر تشوه سمعة بحريننا الغالية وتلطخ سمعتها؟

هذه الأمثلة تعكس صورة من صور الغربة عن المجتمع، وهو داء قديم يعاني منه المثقف العربي عموما منذ ما يسمى بـ «عهد النهضة العربية». على أن هناك صورا أخرى تتجلى في وقوفه الدائم عند قدمي السلطة بدلا من الوقوف إلى جانب رأسها، إذا جاز لي استعارة التعبير من الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل. وإذا اختار الصحافي الوقوف عند القدمين فلا يلومن إلا نفسه إذا وضعت الجماهير عليه دوائر الاستفهام. خصوصا إذا وجدته دائما يلعب دور الصدى، فيردد ما يراد منه ترديده، فتفقد الجماهير ثقتها بهذه الأقلام. بل الأدهى من ذلك عندما تحدث بعض الممارسات غير الأخلاقية في الحرم الجامعي، ويثور الطلاب والطالبات حرصا على عرين العلم والثقافة بعد أن رأوا قناني الخمر بأعينهم، يشحذ أحدهم سيفه لمحاربتهم، مشككا في دوافعهم، وبأنهم إنما أرادوا الفتنة ولم يريدوا الحشمة، فنصّب نفسه في موقع رب العالمين الذي يعلم وحده خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

هذه المآخذ والسلبيات من أعراض الممارسة الصحافية المريضة، ونحن نتطلع إلى تجديد الروح في المجتمع، فالأولى أن نبدأ بأنفسنا ودائرتنا الصحافية الضيقة، مذكرين بما قاله الإنجيل من قبل: «إذا فسد الملح فبم يُملّح»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 75 - الثلثاء 19 نوفمبر 2002م الموافق 14 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً