سأتحدث اليوم عن شخصية عسكرية عراقية «سابقة». إنه الجنرال حسام محمد أمين الذي كان مسئولاً عن دائرة الرقابة الوطنية أيام حكم صدام حسين، وكان قد أوكِلَت إليه مهمة التعامل مع مفتشي الأمم المتحدة لنزع ما كان يُسمَّى بأسلحة الدمار الشامل، خلال التسعينات من القرن الماضي.
بعد 19 يوماً على سقوط بغداد في 9 أبريل/ نيسان2003، أعلنت القيادة الوسطى الأميركية أنها اعتقلت أمين، الذي كان رقمه 49 من أصل 55 شخصية مهمّة مطلوبة حينها للقوات الأميركية. وكان اعتقاله قد جاء بعد أن اعتقل الأميركيون 13 مسئولاً من القائمة المذكورة.
كان الجنرال أمين يعمل تحت إمرة الفريق عامر حمود السعدي الذي كان مستشاراً علمياً لـ صدام حسين، وكذلك تحت رعاية البروفيسور جعفر ضياء جعفر الملقب بأبي القنبلة الذرية العراقية. وكان هؤلاء الثلاثة من أهم المسئولين العراقيين في تلك الفترة عن البرامج العراقية غير التقليدية.
سأروي هنا قصة ذكرها الجنرال أمين للتاريخ. مفاد القصة أن العراق وفي العام 1991 قام (ومن طرف واحد) بتدمير الأسلحة غير التقليدية التي كان يُخفيها عن الأمم المتحدة وهيئاتها الرقابية كالوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويضيف أمين أنه قد وقعت أثناء عمليات التدمير تلك انفجارات نتيجة الحشوات التي كانت بداخل تلك الأسلحة. وقد تسبّب واحد من تلك الانفجارات بتلف في الرقعة النحاسية التي كانت توجد على أحد المحركات الصاروخية، ما أثّر على بيان الرقم التسلسلي الموجود على المحرك، بحيث بات من المتعذر قراءته. وعندما جاء المفتشون الدوليون إلى العراق أصرّوا على معرفة ذلك الرقم.
وكان ذلك الإصرار يُعبِّر عن نية مُسبقة على أن أولئك المفتشين لا يسعون إلى الحقيقة؛ بل إلى إعاقة أي تقرير يمكن أن يُفيد العراق في رَفْعِ الحصار. لذلك، سجَّل المفتشون في تقاريرهم وبسبب هذه الحادثة أن العراق لا يتعاون مع الأمم المتحدة في مسألة تدمير أسلحة الدمار الشامل.
اجتهد العراقيون في أن يأتوا بذلك الرقم وقد نجحوا في ذلك، إلاّ أن المفتشين افتعلوا قضية أخرى... ما هي؟ لقد طلبوا رقم السيارة التي جَلَبَت هذه المحركات إلى المنطقة وتمّ تدميرها بحسب إفادة الجنرال أمين. وكان من الأشياء التي ذكرها لتوصيف ما كان يجري أن أولئك المفتشين يتّبعون سياسة «تحريك الهدف». بمعنى أنه وكلما انتهى الأمر من نقطة معينة أو كاد يقومون بتغيير ذلك الهدف كي لا يكون منجَزاً، والهدف كله يكمن في أن المفتشين كانوا يريدون إطالة أمد التفتيش لغرض سيُعرَف لاحقاً ألا وهو الحرب.
فوفقاً للمعطيات التي توافرت للمخابرات العراقية خلال تلك الفترة، فإن 80 في المئة من المفتشين كانوا يحملون نوايا عدوانية تجاه العراق، نتيجة تجنيدهم من قِبَل دول غربية، و15 في المئة منهم فقط مهنيون، بينما 5 في المئة هم مفتشون متعاطفون مع العراق كما يذكر أمين. وكانت أغلب الصلاحيات قد هيمنت عليها تلك الكثرة المغرضة، بدعم من الدول الكبرى وأهمها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
هل تتذكرون نص التقرير الذي قدمه كبير مفتشي الأسلحة التابع للأمم المتحدة هانز بليكس في الفترة التي سَبَقت احتلال العراق؟ لقد كان يقول: «العـراق تعـاون بشـكل طيـب إلى حد ما حتى الآن مع لجنة الأمـم المتحـدة للرصـد والتحقـق والتفتيـش في هـذا الميـدان»، مضيفاً بأن «أهـم نقطـة يجـب إبرازهـا في هـــذا الصدد هي أن الوصول إلى جميع المواقع التي رغبنا في تفتيشها كان يتم فوراً دون إعاقة، باستثناء حالة واحدة. كما حصلنـا على مساعدة كبيرة في بناء الهياكل الأساسية لمكتبنا في بغـداد وللمكتـب الميـداني في الموصـل. وكـانت الترتيبات والخدمات التي تقدم لطائرتنا وللطائرات المروحية جيدة. وكانت البيئـة صالحـة للعمـل فيـها».
لكن، ولكون بليكس يعمل وفق منظومة تحوطها دوافع شريرة، فقد كان دائماً ما يجعل تقريره رمادياً ليتم تفسيره بشكل خاطئ. فمثلاً، حين يصف تعاون العراق مع المفتشين في 7 ديسمبر/ كـــانون الأول2002، وأنه (أي العراق) قدّم تقريراً من 12 ألف صفحـة «في حـدود الإطـار الزمـني الـذي حـدده مجلـس الأمـن»، متضمناً «قـدراً كبـيراً مـن المـواد والمعلومـــات الجديدة»، يعود ليقول بأننا كنا نتوقع أن «يحــاول العــراق أن يجيب وأن يوضّح وأن يقـدم الدليـل الداعـم فيمـا يتصـل بقضايـا نـزع السـلاح الكثـــيرة المعلقــة»، ما يعني في المحصلة أن بغداد لا تتعاون، وبالتالي فهي مُدانة!
لقد بات الجميع يتحدث عن مسئولية جورج بوش الابن وطوني بلير عن تلك الحرب المشئومة، لكن لا يتحدث أحد مع الأسف عن هؤلاء المفتشين الذين مهدّوا من خلال تقاريرهم التي كانت تدين العراق لشن تلك الحرب التي مازال العرب يدفعون ثمنها الباهظ.
ومن المؤسف أن نجد بليكس بعد 7 سنوات يُصرّح ويقول بأنه وفي فبراير/ شباط 2003، أبلغ «رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير ووزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس آنذاك عن شكوكه في وجود أسلحة دمار شامل في العراق»، متهماً «الولايات المتحدة وبريطانيا عقب غزوهما للعراق بتضخيم المعلومات الاستخبارية التي كانت متوافرة قبل الحرب لتعزيز موقفهما الداعي إلى استخدام القوة». لكن هيهات أن نصدِّق هذا بعد أن دُمِّرَ كله شيء في اللحظة التي بقي فيها هذا الرجل صامتاً كي يمرّ العدوان.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5320 - الجمعة 31 مارس 2017م الموافق 03 رجب 1438هـ