من الجميل أن تكون أمام أحدٍ ما، يسرد لك ذاكرته. أو أن تحظى بمعرفة تفاصيل كتابة كتاب قرأته فأعجبك. كتابٌ يتعلق بأحد المبدعين الذين تفضّلهم على غيرهم. فكيف إن كان هذا الحديث عن محمود درويش، الشاعر الذي شكل علامة فارقة في سماء الشعر العربي؟
المكان يلعب دوره، والضيفة تستطيع أن تسرد ما أراد الجمهور معرفته بالأبجدية أو بالمشاعر. هذا ما يتبادر إلى الذهن في محاضرة الكاتبة الصحافية إيفانا مرشليان، يوم الاثنين الماضي (27 مارس/آذار 2017) في بيت عبدالله الزايد تحت عنوان «الموقعة أدناه: ممتنة للصحافة الثقافية»، التي تحدثت خلالها عن مشوارها في الصحافة الثقافية وكتاب محمود درويش: أنا الموقع أدناه محمود درويش» الصادر عن دار الساقي للنشر في بيروت، والمترجم عن دار «آكت سود» الباريسية. بعد أن وجهت له إثني عشر سؤالاً قام بالإجابة عنها بخط يده، ثم نشرت هذه المخطوطة في الكتاب.
عبق المكان التراثي، وحميمية القاعة الصغيرة المكتظة، تضيف إلى الحديث لمحة كان بحاجة إليها حين الحديث عن محمود درويش وذاكرة إيفانا، خصوصاً مع اللغة الأنيقة التي استخدمتها الكاتبة في خطابها.
تقول مرشليان إنها ممتنة للصحافة الثقافية التي عرّفتها وجالت بها في عوالم حافلة بالعناوين والأسماء وجعلتها تعيش حياة انتقائية مرفهة.
بدأت مشوارها عندما كانت في التاسعة عشرة من العمر في سنتها الأولى في الدراسة الجامعية حين قصدت مجلة «النهار العربي والدولي» لتجد نفسها أمام الكاتب توفيق يوسف عواد، ومعلمة المادة الثقافية في الجامعة الكاتبة تيريز عواد ليأخذاها إلى الشاعر أنسي الحاج الذي طلب منها مراجعة كتب حديثة الصدور وتحرير أخبار عنها أو كتابة مقالات نقدية عنها إن كانت تستحق ذلك، ليتعرف من خلالها على أسلوبها. وقد همس لتريز وهو يسلمها كتاب الألم لمارغريت دوراس: أشعر بأن إيفانا ستبقى معنا». وبالفعل بقيت معهم في المجلة لثلاث سنوات في بيروت ثم ثلاث أخرى في باريس. وبين باريس وبيروت حاورت العديد من الأدباء والمثقفين والكتاب والشعراء والفنانين في البلدين. لكنها كانت تحلم بلقاء ومحاورة محمود درويش، حتى أنها كتبت في امتحان الدخول لكلية الاعلام: «اخترت هذه المهنة فقط لأحاور يوماً محمود درويش».
عرفت إيفانا مكان درويش في باريس، لكنها عرفت معه أنه كان مغروراً وحذرا ولا يستقبل أحداً ويتجنب الغرباء الذين يخططون لاقتحام عزلته متسلحين ببطاقاتهم الصحافية!
وأمام كل هذه المعطيات لم تكن لتأمل خيراً، ففقدت الأمل وأقنعت نفسها أن الأحلام جميلة حين تبقى أحلاماً.
وفي خضم تلك الأحلام شاءت الصدف أن تقابل مرشليان محمود درويش أكثر من مرة في مكتبة معهد العالم العربي وأن تصطدم بين الحين والآخر به. وتكررت اللقاءات لكنها لم تعرّفه بنفسها يوماً، وكانت تقول في نفسها: يأتي الحوار وحده أو لا يأتي. وهي تراقبه كبقية زوار المكتبة وهو ينتقل بين الكتب أو ينتقل وسط أعين المعجبين والمعجبات.
وجاء اليوم الذي حيّاها فيه وجلس إلى جانبها وهو يقرأ الصحيفة، وعرف حينها أنها صحافية لبنانية تعرف أشعاره.
تقول إيفانا في ورقتها: «عامان من مجمل إقامتي الباريسية التي استمرت ست سنوات جعلاني أحظى من شاعر فلسطين بأثمن الهدايا: موعد للقاء صحافي معه نتج عنه مخطوطة أدبية مؤلفة من سبع وعشرين ورقة مدونة بخط اليد، وصداقة نوعية كتلك التي تنشأ عادة بين صحافي وأديب.» وبقيت تلك المخطوطة في درجها 22 عاماً.
في العام 1999 عادت والتقت الشاعر محمود درويش في مسرح الأونيسكو ببيروت، بعد غياب خمسة أعوام، وقد بدا خلال اللقاء منهكاً جرّاء عملية جراحية في القلب. لكنه سألها عن مخطوطته وطلب منها الحرص عليها وعدم إضاعتها كما تفعل دائماً مع أشيائها الثمينة. وفي العام 2002 كرر نفس السؤال عليها بعد حفل توقيع «حالة حصار»، وقال لها: «رهيبة... سيكون لنا كتابنا»!
كانت المفاجأة كبيرة عليها فهي صحافية ولا علاقة لها بالأدب والشعر حتى تصدر كتاباً مع قامة كدرويش، لكن هذا ما حدث فعلاً.
اشتغلت مرشليان على الكتاب كما طلب منها درويش، أن يكون نصاً مقتضباً لا يطول من عمر عابر، مقدمة يتبعها الحوار ثم عرض للمخطوطة.
تقول الكاتبة: «ركضنا كرفيقين متسامحين مع الفوارق والتفاصيل، تحت المطر الباريسي قبل أن يفوتنا افتتاح (معرض القطط) على بعد رمية حجر من بيته ومعارض مركز بومبيدو والجوار (...)، ثم أوحت له بكتابات عابرة فوق قصاصات الورق ومحارم المطاعم البيضاء».
لم تستقر مرشليان على مقدمة للكتاب حتى العام 2005 فقد كانت تكتب وتمزق إلى أن أودعت مشروع الكتاب بين يدي درويش بعد طول انتظار ومماطلة منها خوفاً من ردة فعله وهو يقرأه. لكن ساعتي قراءته مرّتا كأنهما دهر كما تقول، إلى أن سمعته يتحرك ثم يضحك. فثمة مقاطع أضحكته وكان قد نسي تفاصيلها ففضل فصلها عن النص.
وهكذا كتب الكتاب، لكن مرشليان لم تفوّت فرصة سؤاله عن سبب اختيارها هي دون غيرها لهذا الكتاب فأجاب: «رهيبة» هذا النص لم تعد الرهيبة التي أراها الآن، وذلك العاشق للمطر والرسم والنحت ورائحة الخبز لم يعد هو نفسه الجالس أمامك الآن. لقد تغيرنا أنا وأنت دون أن نتغير تماما!