سبق أن ذكرنا أن هناك العديد من التأثيرات السلبية التي نتجت عن السيطرة السياسية للقرامطة على البحرين في الفترة ما بين 929م و 1064م، منها تراجع المظاهر الحضرية في المنطقة، وكذلك تأثيرات سلبية على حركة التجارة الخارجية. ويضاف إلى تلك السلبيات، تراجع المستوى الفكري والثقافي والإنتاج العلمي الفقهي. يذكر أنه من المرجّح أن غالبية سكان إقليم البحرين كان، قبل سيطرة القرامطة، يعتنق المذهب الإمامي الإثني عشري (راجع الجنبي 2015)، وأن بعض جذور الإثني عشرية للبحرين، قبل فترة القرامطة وأثنائها، كانت واضحة وتتمثل في عددٍ من الفقهاء الذين ظهرت أسمائهم خارج إقليم البحرين، ربما بسبب هجرتهم (العوامي 1995، الواحة العدد 2)، (المهاجر 2007).
أما خلال فترة سيطرة القرامطة فلم تظهر أي أسماء لفقهاء من داخل البحرين؛ فقد كان القرامطة في بدء أمرهم عنصراً ثقافياً غريباً على هوية الناس هناك، بل على هوية التشيّع الإمامي إجمالاً، وعليه فإن من المُتوقع والمفهوم أن تخمد المنطقة كلها مع هذا التبدل السياسي؛ (المهاجر 2007). ومع نهاية فترة القرامطة وبداية سيطرة الدولة العيونية، والتي بدأت قرابة العام 1077م، بدأت أسماء فقهاء البحرين تعود للظهور من جديد، وأشهر من شاع ذكره من الفقهاء في القرن الثاني عشر الميلادي هو ناصرالدين راشد بن إبراهيم البحراني الذي أسس أقدم مدرسة فقهية معروفة في البحرين.
مدرسة ناصرالدين البحراني
إن المرجّح من خلال الدراسات التي ركزت على الهوية الدينية للشاعر ابن مقرب العيوني خصوصاً، والدولة العيونية بصورة عموماً، وكذلك دراسة النقود التي قام بسكها الأمير العيوني جمال الدنيا والدين الحسن بن عبدالله بن علي قرابة العام 1149م، كلها تشير بوضوح إلى تشيع الدولة العيونية (العماري بدون تاريخ، ص 173 – 187)، (الشرعان 2002)، (الجنبي 2012، ج7، ص 162 – 227).
هذا، وقد وفرت الدولة العيونية الاستقرار، وفي أوال عملت الدولة العيونية على بناء البنية التحتية، وبناء المساجد والتي يعرف منها مسجد الخميس الذي بني قرابة العام 1124م بحسب نص نقش التأسيس (Kalus 1990, p. 18)، وعرف منها أيضاً مسجد سبسب الذي ذكر عنه أنه يقع في قرية صدد، والذي لا نعرف متى بني، إلا أنه كان مسجداً ذا أهمية كبيرة، حيث قتل فيه الأمير العيوني علي بن الحسن بن عبدالله بن علي العيوني على يد أخيه الزير بن الحسن، و كان ذلك في العام 1179م (الجنبي وآخرون 2012، ج5: ص 2989). كما تم العثور في جنوب باربار على آثار مسجد يرجح أن بنائه يعود لفترة الدولة العيونية (Salles et. al. 1983).
كل ذلك، هيأ بيئة خصبة لنشوء المدارس العلمية الفقهية في البحرين، وأول مدرسة فقهية معروفة تأسست في البحرين كانت في النبيه صالح، وقد أسسها ناصرالدين راشد بن إبراهيم البحراني وذلك في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، واستمر يدرس فيها حتى وفاته في العام 605 ه (1208م) ودفن في النبيه صالح، ولازال قبره فيها معروفاً (المهاجر 2007). وأعقب مدرسة ناصر الدين بسنوات مدرسة الشيخ أحمد بن علي البحراني المعروف بابن سعادة (كان حياً سنة قرابة العام 1271م) والذي أسس مدرسته في ستره، وكان من طلابه الكلامي الحكيم علي بن سليمان البحراني، الذي واصل عمل ابن سعادة، وكان من تلاميذه الشيخ ميثم البحراني (توفي قرابة العام 1280م) (المهاجر 2007)، (آل مكباس 2007). وبذلك تكون البدايات الأولى لأقدم المدارس المعروفة في البحرين في النبيه صالح وجزيرة سترة، فهل كانت هناك مدارس أخرى معاصرة لها في موقع مسجد الخميس الذي تبوأ مركزاً مهماً في السنوات اللاحقة للدولة العيونية؟.
هوية المباني في موقع مسجد الخميس
عثر في موقع مسجد الخميس على آثار مباني، يرجح أن بناءها بدأ في القرن الحادي عشر الميلادي، وتطورت في الفترات اللاحقة، ويرى Insoll أن هذه المباني ربما كانت تمثل سوق تجارية أو منازل سكنية (Insoll 2005, Insoll et. al. 2016). يذكر أنه مع نهاية القرن الحادي عشر الميلادي بدأت تظهر قبور بالقرب من هذه المباني، وفي بداية القرن الثاني عشر تم بناء المسجد بالقرب منها. هذا، واستمر ظهور القبور في الفترات اللاحقة، حتى تحول الموقع إلى ما يشبه المقبرة.
إن هذا النموذج في تطور موقع مسجد الخميس، أي ظهور مبانٍ ثم يحاط بقبور ومسجد، ليس بالنموذج الغريب في البحرين، بل هو نموذج شبيه بتطور المواقع التي نشأت فيها مدارس علمية فقهية. ويلاحظ حالياً أن عدداً من مواقع المدارس العلمية الفقهية التي هجرت في البحرين تحولت لمقابر، حيث تشاهد آثار مبنى أو مسجد فوق تل وتحيط به مجموعة من القبور. بالطبع، لا يمكننا الجزم بوجود مبنى لمدرسة فقهية في موقع مسجد الخميس، إلا أن تزامن ظهور المباني في الموقع مع فترة الدولة العيونية، وتزامناً مع بداية ظهور المدارس العلمية الفقهية، وتشابه نموذج تطور الموقع مع نموذج تطور مواقع المدارس الفقهية، يجعلنا نميل لترجيح وجود بناء لمدرسة فقهية في موقع مسجد الخميس.
الخلاصة، إنه تزامناً مع بداية الدولة العيونية في البحرين بدأ الاهتمام ببناء المساجد، وظهر في فترتها أول فقيه بحراني معروف وهو ناصرالدين راشد البحراني الذي أسس أول مدرسة فقهية معروفة في البحرين، وتتالت بعدها المدارس. هذا وقد بلغت المدارس الفقهية ذروتها في ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلادي، وانتشرت في العديد من مناطق البحرين، وقد كانت تقوم بتدريس العلوم الشرعية والعقلية على حد سواء. هذا، ولم يقتصر نشاط الدولة العيونية على بناء المساجد، بل عمل العيونيون على بناء المباني الضخمة والقرى والأسواق التجارية، وهذا ما سنناقشه بالتفصيل في الحلقات المقبلة.