العدد 5318 - الأربعاء 29 مارس 2017م الموافق 01 رجب 1438هـ

سطوة... زيارة

من أعمال الفنان أشرف بنزاني
من أعمال الفنان أشرف بنزاني

مهدي عبدالله - قاص ومترجم بحريني 

تحديث: 12 مايو 2017

بدّدت مكبرات الصوت سكون الحي الهادئ، الغارق في غياهب الدجى، وتعالت أصوات المؤذنين من كل حدب وصوب، فنهض راشد وغسل وجهه وارتدى حلّته وأخذ طريقه نحو المسجد. تطهر وتوضأ ودخل المحراب. كان هناك نفر قليل من المصلين، لم يشأ أن يصلي وراء الإمام فتنحى جانباً وتهيأ للعبادة. سمع همهمة مريبة وبلبلة غير طبيعية فجزع قلبه وتكهرب جسده لكنه استغرق في الصلاة. وبينما هو في السجدة الثانية داهمته عصا غليظة اغتالت حرمة المسجد وهوت على ظهره من دون رحمة. سقط وهو يترنح من الألم واستدار مذهولاً فإذا بشخص ضخم الجثة قاسي الملامح تتطاير السهام من عينيه يغمغم بكلمات عنيفة ويوبخه ويهم بضربه ويزجره بسبب عدم الصلاة خلف الإمام. التقط أنفاسه وردّ بصوت مرتعش بأنه جاء متأخراً بعض الشيء فلم يتمكن من أن يصلي خلفه، والحقيقة إنه كذب حيث أنه لا يحب هذا الرجل ولا تعجبه أفعاله. فهدده الشخص الهمجي غاضباً: في المرة المقبلة إذا جئت إلى هذا المكان فيجب عليك أن تصلي وراءه. فوعده خيراً وهو مرتعب لما قد يقع له من مكروه. لم يكتف الرجل الضخم بتوبيخه بل أضاف: إن وضوءك غير صحيح أيضاً فسأله مستغرباً: وكيف عرفت؟ فقال: عند دخولك المسجد رأيتك تمسح يدك على قدمك اليمنى بطريقة خاطئة ويجب أن تمسحها من باطن الأصبع حتى ظهر القدم بصورة كلية. فردّ عليه: المعذرة يا سيدي، سأفعل ذلك ابتداء من اليوم.

تركه الرجل وهو في حيرة من أمره حيث أنه يصلي ويصوم ويؤدي الواجبات الدينية على أكمل وجه منذ أكثر من عشرين عاماً. وغادر الرجل المسجد ومعه بعض المرافقين فأخذ راشد يطل من النافذة ليرى وجهته، فوجده يرتقي عربة حمار ويستلقي على «عدّة» الركوب مغمضاً عينيه وفي الطرف الآخر صبي يقود العربة.

زيارة

كان صاحب الأعمال الثري في زيارة تفقدية لمصنع الملابس الجاهزة الذي يملكه، وبعد انتهاء الزيارة واجتماعه مع المسئولين فيه، خرج قاصداً الحمّام فتلقته امرأة متشحة بالعباءة وهتفت: صباحك طيب يا أبا محمد. أنا زوجة العامل عبدالباري، أريد أن أشرح لك قضية زوجي وإذا سمحت لي سأناديه في الحال، إنه موجود في الفناء.

وما هي إلا لحظات حتى جاء العامل ومعه مئات الموظفين والعمال الذين تدافعوا فيما يشبه التجمهر وهم يسندونه من الخلف. كان يبدو ضعيفا خائر القوى وعليه علامات المرض والهِزال. قال وهو يحاول الاستناد على بعض الأشخاص: أنا يا أبا محمد أحد العمال الذين التحقوا بالمصنع منذ تأسيسه، خدمته سنين طويلة وأفنيت عمري في العمل، وقد شاءت الظروف أن أسقط من على السلّم وأصاب بعجز مستديم في ساقي اليمنى. وقد أبلغني المسئولون بأنني سأحال على التقاعد لأنني عاجز عن العمل مقابل معاش تقاعدي لا يفي ولا يسمن. لديّ أسرة مكونه من ثمانية أطفال وابنتي الكبيرة ستلتحق بالجامعة هذا العام، أنا غير قادر على مصاريف دراستها. عليّ ديون ثقيلة إضافة إلى قسط الإسكان الأزلي. إنني أناشدك مساعدتي وأرجو أن لا تخيّب أملي.

أمام تجمهر الناس واندفاعهم غير المنظم، خشي الرجل الثري أن يصيبه مكروه فقال لهم: سآتي لكم بعد قليل. تركهم وفي غضون لحظات حوصر المبنى من قبل الموظفين والعمال وكانت سيارة الرجل بالخارج يجلس فيها مدير أعماله وحيداً خائفاً من أن يلحق به ضرر. وأخذ الجمهور يجري ويحاول إيذاء كل من يقترب من المصنع.

بعد دقائق خرج الرجل إلى الجمهور وقال: قضيتك أيها العامل سنحلها إن شاء الله. سأطلب من المدير كتابة تقرير عن حالتك وأعدك بالخير.

صفق الجميع له ودعوا له بطول العمر وموفور الثروة. ثم انصرف الرجل وغادر في سيارته.

التفت إلى مدير أعماله وقال: تدبّر هذا الموضوع، كما عهدت منك.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً