عندما أرسل السوفيات أول صاروخ إلى الفضاء، ارتعب الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور، وقرر العمل على تقليص الفارق في القدرة الصاروخية بين البلدين لترميم موازين القوى في هذا المجال. ركز خلفه الرئيس جون كينيدي على استراتيجية «الرد المرن»، فأقدم على رفع مستوى القوى التقليدية بعد ان أثبتت استراتيجية «الرد الشامل» التي تعتمد على البُعد النووي فشلها. وانتقل العالم من الحروب الشاملة إلى الحروب المحدودة، فبعد كوريا كانت فيتنام.
كان المجتمع الصناعي - العسكري هو المستفيد الأكبر من كل هذه التحولات، خصوصا في المجتمع الأميركي. وعبر الرئيس ايزنهاور عن خوفه من هذا الوضع في الخمسينات، عندما حذّر من سيطرة هذا القطاع على الشأن العام.
شجّع هذا المجتمع الصناعي - العسكري صناع القرار السياسي، والقادة العسكريين على الذهاب إلى الحرب بسرعة عند كل أزمة أو مأزق، بدلا من إعطاء البعد السياسي حقه. فالعسكريون يحلمون دائما بالنصر الكامل والشامل في المعارك، وذلك بعكس القادة السياسيين الذين يستعملون القوة العسكرية وسيلة من وسائلهم في العلاقات الدولية. إذا ما توافرت الوسيلة للعسكر، فإن هذا الأمر قد يسهل نصرهم، ليتحقق حلمهم.
كان القائد الأميركي الشهير كورتيس لوماي مثالا بامتياز لهذا الوضع. فهو الذي قاد خلال الحرب العالمية الثانية القصف الاستراتيجي الجوي لعاصمة اليابان طوكيو. في الخمسينات، كان على رأس القيادة الجوية الاستراتيجية (اس. اي سي) عندما اقترح استعمال النووي ضد الصين لإنهاء الحرب الكورية. بعد ذلك، اقترح على القيادة السياسية الأميركية القيام بعملية نووية استباقية ضد الاتحاد السوفياتي. خلال الأزمة الكوبية، طلب من الرئيس كينيدي مهاجمة كوبا بالسلاح النووي لازالة الصواريخ السوفياتية المنصوبة هناك وكانت تهدد الامن الاميركي واتهم الرئيس كينيدي بالجبن عندما اعتمد الحصار البحري للجزيرة.
هذه عينة عن القادة من العالم المتقدم، الذين تتوافر لهم الوسائل العسكرية اللازمة، والذين فقدوا بطريقة ما الاتصال بأرض الواقع. فنتساءل عن النتيجة التي كانت ستترتب عن الأخذ بنصائحهم. وماذا كانت لتظهر عليه صورة عالم اليوم، لو ضربت أميركا الصين، وضربت الاتحاد السوفياتي، وضربت كوبا؟
هل هناك تماثل بين عالم اليوم، وعالم الأمس؟
في الصورة العامة والمفاهيم المجردة، نعم. لكن الطريقة والظروف تختلف، بسبب تبدل اللاعبين، الأهداف والتحالفات. كذلك الأمر تبدل أسس النظام الدولي الذي كان قائما، والحاجة الماسة إلى نظام بديل. كيف يبدو الوضع العالمي الحالي؟
أعلن الرئيس جورج بوش حديثا في استراتيجيته الأمنية، انه سيمنع أية قوة من المنافسة عسكريا مع أميركا، أو حتى مجاراتها في القوة. وحدد الأعداء كالآتي: الطغاة، والارهاب. اقترح التعاون مع القوى الكبرى، من دون ان يحد هذا الأمر من حرية التفرد عندما تدعو الحاجة. لكن يبقى السؤال في سبب عدم تشكل أي حلف مضاد للهيمنة الأميركية المطلقة حتى الآن؟
تعلمت الدول الكبرى من تجاربها المريرة السابقة في الاقتتال ضد بعضها بعضا. لذلك هي تركز على التعاون بدلا من التصادم. وهي ترى العالم الآن على الشكل الآتي: دولة مهيمنة، تتمثل في أميركا. دول من الصف الثاني، كفرنسا، انجلترا، الصين، ألمانيا، اليابان... إلخ. وأخيرا، كل ما تبقى من دول العالم. ترى الدول الكبرى انه لا توجد ضرورة قصوى ملحة للتحالف ضد الهيمنة الأميركية في الوقت الحالي. وهي تسلم بالقيادة الأميركية للعالم. لذلك، لا مانع لديها من ان تكون أميركا «شرطي العالم»، الذي يهتم بالمشكلات الأمنية الثانوية، وخصوصا ان هذه المهمات تعتبر مكلفة جدا على مختلف الأصعدة. تندرج باكستان والحرب على الارهاب في هذا التصنيف. لكن هذا الوضع، أو المهمة الأميركية الجديدة التي أعلنها الرئيس بوش في استراتيجيته الكبرى، تضع أعباء على الآلة العسكرية في كل تركيباتها، كذلك الأمر تفتح الباب واسعا أمام المجتمع الصناعي - العسكري الأميركي للعودة إلى الساحة وبقوة. لكن لماذا؟
بعد 11 سبتمبر/ أيلول، تغير العالم وتبدل الأعداء. وأصبحت الأسلحة القديمة لا تنفع. وقرر البنتاغون وعلى رأسه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إعادة ترتيب وضع القوى العسكرية، في كل أبعاده، في العقيدة وتشكيل القوى والتدريب والتسلح. ويفتح هذا الوضع، الباب واسعا لابتكار أنواع جديدة من الأسلحة لضرب الأعداء الجدد.
تندرج الأسلحة غير القاتلة (Non-Lethal) في هذا الإطار فماذا عنها؟
تتميز الأسلحة التي تستعمل الآن من قبل الدول المتقدمة التي طاولتها الثورة في الشئون العسكرية بثلاثة خصائص هي: مداها الجغرافي ودقتها وقدرتها العالية على التدمير.
في المدى الجغرافي، يمكن لهذه الأسلحة الجديدة ان تطلق من أي مكان في العالم، لتصيب هدفها في المقلب الآخر. في الدقة، يمكن لهذه الأسلحة ان تصيب هدفها مع شعاع للخطأ لا يتجاوز الأمتار العشرة في غالبية الأحيان. أما في قدرة التدمير، فهي التي تستطيع تدمير كل التحصينات، وخصوصا ان هذا البعد يرتبط مباشرة بالدقة. وقد تشكل هذه القدرات عاملا إيجابيا لعرض العضلات أثناء الممارسة السياسية. لكنها أيضا قد تشكل عائقا سلبيا أمام الدول التي تملكها. فامتلاك السلاح المتقدم، لا يعني إطلاقا ان النصر اصبح محسوما، وان الأمن القومي أصبح مضمونا. والتاريخ مليء بالأمثلة التي تنفي هذه المقولة. خسرت أميركا حربها في فيتنام على رغم انها دولة عظمى. لم تستطع روسيا حسم الأمور في الشيشان على رغم كونها دولة كبرى.
ما ملامح المرحلة الجديدة فيما خصّ الصراعات والحروب؟
في العقدين المقبلين، ستحوي المدن ثلثي سكان الكرة الأرضية. وأصبح مفهوم احتكار العنف لا يقتصر فقط على الدولة - الأمة كما تعودنا سابقا، بل أصبح العنف ووسائله متوافرين للكل ومن ضمنهما الارهاب. وانتقلت بسبب هذا الوضع الصراعات والحروب إلى المناطق الآهلة. وغدت الحروب تعلن بين الدولة - الأمة والمنظمات الارهابية، بعد ان كانت تعلن بين دولة وأخرى. فالرئيس بوش أعلن الحرب على «القاعدة» من على منبر الكونغرس عقب اعتداءات 11 سبتمبر.
إلى ماذا يقودنا هذا الوضع؟ سينتج عنه تعقيدات للدولة - الأمة، وحيرة عمل للمنظمات الارهابية. إذ لا يمكن للدولة - الأمة ان تتصرف كما تتصرف المنظمات الارهابية. ولا يمكن لها ان تعلن الحرب كل يوم. كذلك الأمر لا يمكن لها ان تستخدم جحيم ترسانتها ضد المدنيين. فهي جسم مسئول تجاه المجتمع الدولي ومؤسساته، وتجاه الرأي العام الداخلي إلى حد بعيد. في المقابل، لا تحد هذه التقييدات من حرية عمل المنظمات الارهابية. فهي حرة في اختيار الزمان والمكان المناسبين لضرب أهدافها. وهي لا تأبه بمن يموت. وهي غير مسئولة تجاه أحد، إلا تجاه ايديولوجيات متطرفة تعتقد انها تنفذ أهدافها. وفي جو هذه المقارنة، هل يمكن لنا ان نتصور طائرة لدولة أمة (أميركا مثلا) تصطدم عمدا بهدف معين لقتل بعض الأعداء. بالطبع لا، لكن «القاعدة» قادرة على ذلك. إذا أصبح لزاما على الدول المتقدمة اللحاق بالارهابيين إلى عقر دارهم والموجودين في المناطق الآهلة للقضاء عليهم. وذلك خلافا لنصيحة المفكر الاستراتيجي الصيني صان تسو الذي قال بعدم «دخول المدن». إذا كيف يمكن التعامل مع هذه المخاطر الجديدة؟
جربت روسيا حديثا نوعا جديدا من السلاح ضد الثوار الشيشان عندما احتجزوا الرهائن في مسرح قرب العاصمة موسكو. لكن النتيجة اتت مخيبة للآمال، لأن الوسيلة المستعملة قضت على الرهائن، كما على الارهابيين. بذلك يكون الارهابيون حققوا بعضا من اهدافهم. فهم ارادوا تفجير المكان اذا لم تلب موسكو طلباتهم. وبدلا منهم قامت القوات الروسية بمهمة قتل الكل تقريبا. انها سياسة ابادة الارهابي والرهينة معا، بحجة عدم التفاوض مع المنظمات الارهابية.
لكن هل تردع هذه الاستراتيجية العمليات المستقبلية؟ بالطبع لا، ما العمل إذا؟
يذكر الكاتب الاميركي الشهير الفن توفلر في كتابه «الحرب، ضد الحرب»، انه لابد من ابتكار اسلحة جديدة غير قاتلة. فالحروب الحالية اصبحت قاتلة ودموية جدا. كما ان التقييدات على الدول المتقدمة أصبحت كثيرة، الامر الذي يحد من حرية حركتها.
يقترح في كتابه بعضا من هذه الاسلحة التي يمكن ان تقوم في تركيبتها الاساسية على المفاعيل الآتية:
1- مفعول تنويمي أو مهدئ، يجعل الضحية كما القاتل عاجزين عن المقاومة.
2- استعمال اللايزر لتعمية الارهابي ومنعه من استعمال وسائله، ومعرفة ما يدور حوله.
3- القاء مواد لاصقة على عتاد الارهابي لمنعه من تحريكه واستعماله.
4- القاء مواد زالقة على مدارج الطيران لمنعه من استعمال طيرانه إذا وجد.
5- استعمال مواد معينة لجعل مصادر الطاقة (نفط وغيره) غير صالحة للاستعمال.
إذ نجحت الدول المتقدمة في ابتكار هذا النوع من الاسلحة فهي ستحقق الآتي:
ستحقق الاهداف العادلة، ستردع كل من تسول له نفسه الاقدام على اي عمل ارهابي، ستبدل كل مفاهيم الحرب العادلة والمحقة، ليقف الجدل بخصوصها.
فالحرب الجديدة هي من دون ضحايا، فتصبح كل الحروب عادلة. لكن هذا الامر يستلزم استراتيجيات وعقائد عسكرية جديدة غير قاتلة. كما يستلزم وسائل من نوع جديد، بالاضافة إلى تخصيص الاموال الطائلة للابحاث والانتاج. وسيشهد العالم بسببها سباقا في التسلح، وقد يكون السعي إلى السلاح الاقل قتلا وفتكا.
ويبقى السؤال في ثبات وديمومة الطبيعة البشرية عبر العصور، فتقول هل ان تحقيق هذا الحلم قد يجعل الحرب من الظواهر الاجتماعية البائدة؟ بالطبع لا.
وهل ان امتلاك الدول المتقدمة لهذا النوع من السلاح سيجعل وجهة استعماله فقط باتجاه تحقيق العدل والمساواة لكل البشر؟ ومن يضمن عدم انتقاله إلى ايدي الارهابيين؟
التجارب السابقة لا تشجع، طالما ان هدف الانسان حتى الآن هو تطويع إرادة الانسان الآخر وقهره
العدد 74 - الإثنين 18 نوفمبر 2002م الموافق 13 رمضان 1423هـ