العدد 74 - الإثنين 18 نوفمبر 2002م الموافق 13 رمضان 1423هـ

للفساد أميرة «من عابدين»... وغيرها

مسلسلات التلفزيون في شهر رمضان

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

ربما هي الشعوب العربية المسلمة، وليس كل المسلمين، التي يتجمد معظم مواطنيها في رمضان أمام شاشات التلفزيون لمتابعة المسلسلات المختلفة المعروضة على الشاشة الصغيرة تباعا، وأيضا متابعة البرامج التلفزيونية الخفيفة، في بعض الأوقات تزيد من متعة هؤلاء ويبدو أنه يسلي فطورهم ما يسمعونه فيما يتداول في مجالسهم النيابية، أو ما يقرأونه في صحفهم اليومية من أخبار تبدو أقرب إلى الفكاهة منها إلى الجد.

بقية خلق الله من المسلمين من غير العرب تنصرف في هذا الشهر في بلدانها إلى ما انصرفت إليه في شهور قبله وبعده، وهو الإنتاج الذي ينفع الناس في الأرض.

يتجمع الكثيرون لمشاهدة حلقات تبث تقريبا في كل المحطات التلفزيونية، وهي حلقات «أميرة في عابدين» وتناقش الحلقات موضوع أثير للكثيرين وهو السرقات من المصارف والفساد الذي يكاد يسود طبقة بكاملها في مجتمعاتنا العربية، أصبحت أحبارها من كثر ما استهلكت في وسائل الإعلام العربية منذ أن بدأت الممارسة، أي ممارسة الفساد المالي والإداري، وكأنها شيء طبيعي من جملة الأشياء الطبيعية التي تواجهنا في حياتنا اليومية، أو عمل روتيني متوقع.

ربما لا يوجد مثل هذا الفساد في مجتمعات أخرى على الشاكلة نفسها والمستوى نفسه إلا في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، بعد تلاشي الإمبراطورية السوفياتية، ولكنه هناك تحول إلى مافيا حقيقية، ويتحول في بعض بلداننا العربية أيضا إلى مافيا. فكثيرا ما نرى ونسمع أن هناك من يسند هذا الفساد في (الطبقات العليا) كما هو مجسم في مسلسل «أميرة في عابدين» السابق الذكر الذي كتبه باقتدار الكاتب أسامة أنور عكاشة، ولو أني أعتقد أن سير الحلقات، حتى الآن على الأقل، تجر المشاهد البسيط إلى التعاطف مع الفاسدين أكثر من الاشمئزاز من أعمالهم، كتعاطف المشاهد مع مشكلات أميرة بطلة الحلقات، المتورطة 5 الرشا لذلك الرجل المدان، إلا أن الموضوع يستحق المناقشة من منظور التكالب على الظهور في وسائل الإعلام، وخصوصا الشاشة الصغيرة، من أجل تمرير صفقات شخصية أو تجارية، وهو استخدام وسيلة الإعلام في صيرورة الفساد، التي لم تظهر في أي مجتمع سابق حسب علمي.

يبدو أن التوجه العربي إلى الخصخصة الاقتصادية، الذي تأخذ به بعض دولنا من أجل الخروج من المأزق الاقتصادي الذي تسببت فيه سياسات سابقة وجعلت الدولة هي المهيمنة على الاقتصاد وبالتالي التحكم في المجتمع، محاولة للخروج من ذلك المأزق أوقع بعض المجتمعات العربية في سوء الانفلات الاقتصادي غير المقنن، فأصبحت الحيتان الكبيرة تأكل ما توافر لها من مال وعقار وصناعة، هي سائبة في تقديرها، وهو بدا سائبا في ظل بيروقراطية هشة وضعيفة وقابلة للاختراق بسهولة، نتيجة تدني العائد عليها من وظائف يدفع لها فيها القليل المتواضع من جهة، وقوانين سريعة العطب من جهة أخرى.

ولا يخرج المسلسل التلفزيون الثاني الذي يقبل عليه جمهورنا هذه الأيام ربما بسبب أبطاله، فهو من بطولة الممثلة الجميلة والقديرة يسرى، وهو مسلسل «أين قلبي»، يتحدث عن «الثيمة» الرئيسية نفسها ولو بزاوية مختلفة، وهي الفساد في ترخيص المباني وشراء الذمم لبناء العمارات الشاهقة التي سرعان ما تتهاوى على رؤوس سكانها. إلا أن هذا المسلسل يغوص أكثر في عمق المشكلات التي تواجه بعض المجتمعات العربية وهي العلاقة بين الموقع السياسي والنفوذ المالي غير القانوني، عندما يقر صاحب الأبراج السكنية، الذي وصلت أموال رشوته إلى الجميع في المؤسسة البيروقراطية الحكومية أن يرشح نفسه للمجلس المنتخب، حتى يأتيهم من أعلى مثل ما أتاهم من أسفل، ولا يريد في هذا المسعى أن يقف أحد في طريقه، حتى لو كان ذلك بالابتزاز والخطف وربما القتل، وهو ربط بين صاحب النفوذ السياسي والفساد واضح، وليس قاصرا على بلد عربي بعينه.

من أجل ذلك يتسمر الناس في بلادنا كل ليلة أمام التلفزيون العربي، الذي يحظى بمشاهدة غير مسبوقة في رمضان، عكس كل المجتمعات الإسلامية غير العربية، لأن مثل هذه المسلسلات تنفس عن المواطن العربي ما يعرفه على أرض الواقع على سبيل اليقين لا الصورة، وعندما يقبض على الراشي، والسارق والفاسد في آخر ليالي شهر رمضان، يتنفس المشاهد العربي الصعداء، ويخرج إلى أيام الفطر ظنا منه، أن مشكلات الفساد التي يعرفها حلت على الشاشة وفي الواقع أيضا، وهنا نرى أن شاشات تلفزيوننا العربي تعمل كنوع من المخدر اللذيذ الذي يتعاطاه الكسالى من شعبنا.

شغلنا العام الماضي بزوجات «الحاج متولي»، وكان ذلك المسلسل دليلا على فحولة الرجل العربي، وننشغل هذا العام بمسلسلات الفساد، وإذا كانت الرسالة في العام الماضي أن زواج الأربع هو خير وبركة، ويستطيع الجميع أن يعيش في وئام وسلام، فإن مسلسلات السنة الحالية تقول لنا إن الفساد ضرورة من ضرورات الحياة، وهو شيء موجود وممارس، ويحميه أيضا الكبار في مجتمعاتنا العربية.

أتذكر ندوة عن الإعلام حضرتها في مؤتمر دافوس في سويسرا منذ سنوات كانت بعنوان «الإعلام المعاصر... ضرره وقدرته» وكان الحديث عن وسائل الإعلام وتأثيراتها الكبيرة في حياة الشعوب وخصوصا في العالم الثالث. وتبارى المتحدثون للإسهاب عن حجم وسائل الإعلام في بلدانهم، من عدد الصحف المطبوعة، وعدد أجهزة التلفزيون ومتوسط أجهزة الراديو، فقام شيخ من جمهورية الهند أثقلته التجربة الإنسانية والعملية، وذكر عددا متواضعا لأجهزة التلفزيون في الهند، وعندما التفت إليه الجميع متسائلين بفضول عن ضآلة عدد أجهزة التلفزة في بلاده، دار بعينيه على الجميع وأردف، أنا سعيد بالعدد الصغير في بلادي لأجهزة التلفزيون، لأنه يحمل رسالة، ثم ابتسم وقال: والرسالة غير جاهزة في الهند اليوم.

يا لها من حكمة تحمل من الهند، بأن الشعوب التي تفقد رسالتها تستعمل وسائل الإعلام الحديثة استعمالا مضرا لما صنعت من أجله، فها هي محطات العرب التلفزيونية التي تتكاثر كالفطر تتسابق في رمضان على الخفيف والممجوج في برامجها التي تسميها الخفيفة والمسلية، وكأن إيذاء الناس وإحراجهم وبيان ضعفهم هو عمل يضحك الآخرين. ولو حتى وافقنا على فلسفة الضحك كعامل ترفيه مقبول. فما هي الرسالة المراد بها من مثل هذه البرامج الخفيفة إلى درجة السماجة؟ قد يقال تسلية الصائم، وهو عذر أقبح من ذنب. أما البرامج التي تناقش مشكلاتنا العربية فهي في الغالب إما تروج للسيئ والمسيء، وإما هي في غالبيتها مليئة بعدد من الأخطاء الجغرافية والتاريخية، التي ترسخ في ذهن المشاهد وكأنها حقيقة يقينية لا تقبل الشك أو المناقشة.

يساعد التلفزيون العربي اليوم، إلا فيما ندر، على تأكيد تغييب الوعي لدى المواطن العربي، وهو عمل ينشط أكثر ما ينشط في رمضان. لذلك فإن للفساد ألوانا، وكان له «أميرة» فهي تجمّل الشاشة الصغيرة ومن خلفها جهل بالرسالة التنموية المطلوبة. وإذا صح القول إن الحب هو صداقة مخلوطة بالموسيقى، فإن الرسالة التلفزيونية العربية في معظمها هي تغييب عن الوعي بألوان ملونة وباهرة

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 74 - الإثنين 18 نوفمبر 2002م الموافق 13 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً