استسلم له ولم يقاومه بل طاوعه، فقد كان مجيئه يرضيه، لم يترجاه أن يتركه بل رحب به، فقد كان يناديه، سرق منهم لحظة غفلة، وذهب معه إلى الأبد، كان شفيقاً عليهم وهو يعلم أنهم سيندبونه ويترجون منه لحظة وداع.
لم يترد منذ مدة في اقحام ذاكرته في ذلك الأمر منذ أن دخل في أتون المرض، تجربته القاسية التي خاضها مع رفيق عمره كانت قد أثرت فيه كثيراً، وخصوصاً أنه كان رفيقه فيها خطوة بخطوة.
المرض وآلامه، لياليه الطويلة المملوءة بالأنين، نفقات العلاج الثقيلة، عجز الفقراء وحقوقهم المهضومة، في النهاية انتهى الأمر بصديقه إلى غيبوبة الكبد بلا رحمة، والدنيا الآن لا ترحم... طاف به على المستشفيات الحكومية ولم يجد له مكاناً، كان يحتضر بين يديه ولم يستطع أن يدخله غرفة الإنعاش فقد امتلأت في جميع المستشفيات الحكومية عن آخرها، أنى لهم بواسطة أو رجل مهم ليوفر لهم مكانا؟؟ من الخامسة فجراً حتى الخامسة مساء، يومها لم يستسلموا، طافوا بكل مكان، ترجّوا كثيراً، كلموا كل من يعرفون، ولم يفلحوا في شيء، كان يوماً عصيباً ولكن الذي بعده كان أصعب، لا مكان إلا في ضيافة المستشفيات الخاصة، وبعد أيام رحل وترك الديون تقبع على الفقر.
لا يريد أن يتكرر معه الأمر، لابد له من الرحيل، رحيل بلا ألم... بلا ديون... بلا ترجى... بلا قسوة... بلا انكسار... هكذا يجب أن يكون موت الكادحين الفقراء في دنيا المال والغلاء.
دخلت عليه زوجته فلم تجده معها، صرخت، صرخ بناته، انكبوا عليه، بكى ابنه المعاق الغائب عن الوعي دائماً، لم يصدقوا أنه رحل، فقد كان يكلمهم منذ دقائق!! جاء ابن أخيه فعدل رأسه وسجاه وترحم عليه، اخرجهم من عنده وبكاه... رحمك الله يا عمي نلت ما كنت تتمنى، رحلت شفيقاً على نفسك وعليهم.