العدد 5317 - الثلثاء 28 مارس 2017م الموافق 29 جمادى الآخرة 1438هـ

الحركات الثقافية المتطرِّفة لا تنشأ في ظروف غامضة بل يُمكن التنبؤ بها

«المؤمن الصادق» لهوفر... وترجمة القصيبي...

إيريك هوفر
إيريك هوفر

لم يعرف العالم فترة الخمسينات من القرن الماضي الإرهاب الذي نشهد اليوم، ويكاد يشكِّل المشهد الغالب في استنفار حكومات وأنظمة في محاولة للحدّ من تغلغله وأخطاره، ولن نتحدّث عن القمصان التي رفعت في العالم من قبل بعض الأنظمة باسم محاربة الإرهاب والقضاء عليه والحد منه. ذلك يحتاج إلى ملف آخر؛ وخصوصاً أن تعريف الإرهاب نفسه أصبح مائعاً وهلامياً، ويتم توظيفه بحسب الانتفاع، وبحسب افتعال الظروف أحياناً!

أن تكتب عن ظاهرة لم تجد امتداداً وقتها، فذلك يعني أنك استطعت أن تُوجّه البوصلة من خلال تلك الكتابة ومن خلال ذلك الفكر، نحو ما لم يعد ظاهرة: الإرهاب. إنه أحد سمات وقتنا الراهن، وربما الوقت الذي سيأتي. الظاهرة مثل الموجة، تذهب وتأتي، لكنها غير مستقرة. الإرهاب اليوم، وتحديداً منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، بات أحد التحديات التي تهدد الاستقرار العالمي، أكثر من تهديد الحروب له.

المسألة المهمة هنا يمكننا الوقوف عليها في كتاب الفيلسوف الأخلاقي والاجتماعي الأميركي إيريك هوفر، (25 يوليو/تموز 1902 - 21 مايو/أيار 1983) في كتابه «المؤمن الصادق... أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية»، الذي صدر في العام 1951م؛ حيث يرى أن الحركات الثقافية المتطرّفة، لا تنشأ في ظروف غامضة أو عصية على التتبّع والقراءة والتحليل. على العكس من ذلك إنها تنشأ في ظروف يمكن التنبؤ بها. الكتاب تولى ترجمته بحرفية وإتقان ودقة الشاعر والمفكّر السعودي الراحل غازي القصيبي، وصدر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (المجمّع الثقافي)، العام 2010م.

الكتاب يبحث في التطرُّف... الجذور والحاضنات، وبحسب القصيبي؛ فإن المعادلة التي يعرضها المؤلف بسيطة ومقنعة في الوقت نفسه؛ إذ تبدأ بالعقل المُحبَط. «يرى الإنسان المُحبَط عيْباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلّص من نفسه المُحبَطة وصهْرها في كيان نقي جديد».

الإحباط عمىً آخر، ولكي تسترجع حاسّة الرؤية - بحسب كثيرين - عليك أن تتغلّب وتنتصر على ذلك الإحباط، وإلا فإن الحواس الأخرى قد تجد طريقها إلى الاختفاء؛ ما يعني أنه بعد وقت لن يكون هناك أي أثر يدل عليك.

إحباط الغالبية

في مقدّمة المؤلف التي هي بمثابة اختزال لمُجْمل الأفكار التي ناقشها الكتاب، نقف على عدد منها، ويلزم هنا تقديم هوامش لها كي يتم ربط عناوين الأفكار بالتفاصيل التي أشبعها المؤلف بحثاً ومناقشة.

يشير هوفر إلى أن كتابه يتعامل مع خصائص تشترك فيها كل الحركات الجماهيرية؛ سواء أكانت دينية أو اجتماعية أم قومية، في الوقت الذي لا يزعم الكتاب بأن كل تلك الحركات هي متطابقة أو متماثلة.

من بين أول ما تتركه الحركات الجماهيرية في نفوس أتباعها، هو توليدها استعداداً للموت وانحيازاً إلى العمل الجماعي «وجميعها، بصرف النظر عن المذهب الذي تدعو إليه، تولّد التطرّف والأمل المتقد والكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلّب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق».

يبيّن هوفر أن اهتمام الكتاب يتحدّد في المرحلة النشطة الدعوية إلى الحركة الجماهيرية؛ إذ تتميّز هذه المرحلة بسيطرة المؤمن الصادق - الرجل ذي الإيمان المتطرّف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدّسة - ويسعى الكتاب في محاولة منه إلى تحليل البذور والجذور التي تغذِّي طبيعة هذا الرجل (المتطرف).

الفرضية التي يستعين بها هوفر تنطلق من الحقيقة التي تقول: «إن المُحبَطين يشكّلون غالبية الأتباع الجدد في كل الحركات الجماهيرية، وإنهم ينضمّون إليها بإرادتهم الحرة»، ليضعنا أمام اثنتين من الفرضيات:

- أن الإحباط في حدّ ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق.

- أن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.

(لا تُستخدم كلمة «المُحبَط» في هذا الكتاب بوصفها تشخيصاً طبياً إكلينيكياً، وإنما يُقصد بها الناس الذين يشعرون، لسبب أو لآخر، أن حياتهم ميؤوس منها، وضاعت هباء).

العقل الجماعي المُحبَط

ضمن اعتماد الافتراضين، ولامتحان صحتهما، على هوفر أن يقوم بتحليل العلل التي تصيب المُحبَطين، وردود فعلهم إزاءها، والدرجة التي تتطابق فيها ردود الفعل هذه مع ردود فعل «المؤمن الصادق»، والوسيلة التي تستهل ردود الفعل هذه عبْرها قيام الحركة الجماهيرية وانتشارها.

هنالك في الكتاب أيضاً اعتماد فحص أساليب الحركات الجماهيرية التي طوّرت أساليب ناجعة للتبشير بمبادئها واستخدمتها بفاعلية، والهدف من ذلك «لنرى إذا كان يمكن القول، حقاً: إن الحركات الجماهيرية في مرحلتها الدعوية تعمل على إيجاد عقل جماعي محبط، وإنها بالفعل، تحقق أهدافها عندما تجعلها متفقة مع نزعات المُحبَطين».

لنقف على ما كتبه هوفر في الفصل الأول من الكتاب، وحمل عنوان «الرغبة في التغيير»، كانت الحركات الدينية في الماضي وسائل واضحة للتغيير، وما يميّز ديناً ما من محافظة إنما يجيء بعد جمود القوى الحيوية التي واكبت ولادته. كانت الحركات الدينية الصاعدة تدعو إلى التغيير الشامل، وإلى التجريب، وكانت منفتحة على آراء وأساليب من كل اتجاه. كان الإسلام عند ظهوره حركة تنظيمية وتحديثية. وشكّلت المسيحية تغييراً حضارياً وتحديثياً بين قبائل أوروبا البدائية. كانت الحروب الصليبية ثم حركة الإصلاح البروتستانية عوامل رئيسة في هذا العالم الغربي بعد جمود القرون الوسطى.

في مقابل تلك الصورة يأخذنا هوفر إلى العصور الحديثة؛ إذ كانت الحركات الجماهيرية التي استهدفت إحداث تغيير واسع وشامل، حركات ثورية وقومية. من النماذج تلك، يقدم لنا هوفر قيصر روسيا بيتر الكبير الذي يقول عنه إنه «لا يختلف في إخلاصه للمبدأ وقوته وقسوته عن كثير من الزعماء الثوريين والقوميين، إلا أنه فشل في تحقيق هدفه الرئيس، وهو تحويل روسيا إلى دولة غربية. كان سبب فشله أنه لم يستطع أن يبث في الجماهير الروسية الحماسة التي تمتلك الوجدان، إما لعجزه عن القيام بذلك، أو لاعتقاده بعدم أهمية هذا العمل».

في ضوء ذلك لا نستغرب إذا وجدنا أن الثوار البلاشفة الذين قضوا على آخر قيصر من أسرة رومانوف، كانوا يشعرون بشيء من الألفة مع بيتر، على رغم انتمائه إلى الأسرة المالكة نفسها. خلاصة رؤية هوفر أنه ليس من المستبعد أن ينظر التاريخ إلى الثورة البلشفية بوصفها محاولة لتحديث سدس مساحة العالم، بقدر ما كانت محاولة لبناء اقصاد شيوعي.

الخوف من المستقبل

تحدّد المواقف من المستقبل درجات الفارق بين المحافظين والراديكاليين، بحسب رؤية هوفر، ذلك أن الخوف من المستقبل «يدفعنا إلى أن نتمسك بالحاضر، بينما يجعلنا الأمل في المستقبل متحمّسين للتغيير».

هل التمسك به هنا يكون مطلقاً؟ بمعنى لا فرق في درجات السوء التي تنتابه؟ لا يمكن لأي تغيير أن يحدث إذا كان التمسك بالحاضر بكل مساوئه بمثابة مستقبل يتوهمه المحافظون والراديكاليون. الحرص على بقاء حال من العدمية والتخلّف. وهنا يكمن الخوف من المستقبل، بافتراض أن يحمل ما يدمّر ويمحو ما تبقى من وجودهم؛ لذا يأتي التمسك بالحاضر هنا. في مقابل ذلك، كلما تحقق التغيير كلما خفت وطأة الخوف من المستقبل. فكأن ذلك التغيير هو بطاقة الدخول المريح إلى المستقبل، وبكفاءة يحدّدها الأثر ومحصلات ذلك التغيير.

في الفصل الثالث من الكتاب الذي حمل عنوان «التبادلية بين الحركات الجماهيرية»، يشير هوفر إلى مسألة الاستعداد للتحوّل الذي لا ينتهي، ولا يمكن الجزم بنهايته بهذه السهولة؛ إذ عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنهم، عادة، يصبحون جاهزين للالتحاق بأي حركة فاعلة، وليس بالضرورة إلى حركة بعقيدة معيّنة أو برنامج معيّن، موضحاً لا نهائية الاستعداد للتحوّل، وخصوصاً عند اعتناق المؤمن الصادق حركة ما. فعندما تكون هناك حركات جماهيرية متنافسة «نجد حالات كثيرة من نقل الولاء من حركة إلى أخرى».

يقترب هوفر من محاولة أن تكون أمثلته ومقارباته قريبة، هي الأخرى، من الجماهير، على اختلاف مستوياتها التعليمية والفكرية. الاستناد إلى الشواهد التاريخية تريد أن تضع تلك الجماهير في صورتها الحقيقية، وأن ما يُقدّم من مقاربات حولها ليس فيه أي تجنٍّ أو محاولة تشهير أو إضعاف دورها الذي لم يُخفِ هوفر نفسه إعجابه به وانشداده إليه، وخصوصاً في تعامله معها من الخارج، باعتباره راصداً هذه المرة وليس باعتباره فرداً مُحبَطاً من بين ملايين الأفراد الذين يشكّلون عصب تلك الجماهيرية. ولهذا يشير إلى أنه في هذا العصر، تنظر كل حركة جماهيرية إلى أتباع الحركات الأخرى بوصفهم أعضاء مُحتملين يمكن نقل ولائهم. «كان هتلر يعدّ الشيوعيين الألمان أتباعاً محتملين للنازية. ويستند هنا إلى مقولة أحد رواد الحركة الصهيونية، وأول رئيس لمنظمتها، وأول رئيس لـ «إسرائيل»، حاييم وايزمان (1874م - 1952م)، ومفادها «إن الديمقراطي الاشتراكي، سواء كان صغيراً أو نقابياً قيادياً، لن يتحول إلى نازي، أما الشيوعي فبإمكانه، دوماً، التحول».

ضوء

يُشار إلى أن كتاب «المؤمن الصادق» انتشر على نطاق واسع وتلقى إشادة من عدد من العلماء، وتلقَّفه الناس العاديون الذين وجدوا فيه ضالّتهم. في العام 2001، تم إنشاء جائزة إيريك هوفر تكريماً له مع الإذن الممنوح من قبل مؤسسة ايريك هوفر في العام 2005.

يذكر أن إيريك هوفر، كان عصامياً، علم نفسه بنفسه؛ إذ عمل في المزارع ثم منقّباً عن الذهب. في الحرب العالمية الثانية، وبعد الهجوم على بيرل هاربر، عمل على أرصفة الشحن والتفريغ في سان فرانسيسكو مدة ربع قرن. له من المؤلفات ما يزيد على عشَرة كتُب من أهمها وأشهرها: «أهواء العقل» (The Passionate State of Mind)، «أزمة التغيير» (The Ordeal of Change)، والذي يعتبره هوفر أهم كتبه، و «مزاج زماننا» (The Temper of out Time).

من فضاء الفصل الثاني... الرغبة في بدائل

هناك فارق أساسي بين جاذبية الحركات الجماهيرية وجاذبية المنظمات العملية (كالأحزاب السياسية التقليدية والنقابات وتجمّعات المهن الحرة).

***

إن المُحبَطين يجدون في الحركة الجماهيرية بدائل: إما لأنفسهم بأكملها أو لبعض مكوّناتها؛ الأمر الذي لا يستطيعون تحقيقه بإمكانياتهم الفردية.

كلما استحال على الإنسان أن يدّعي التفوق لنفسه، كلما سهل عليه أن يدّعي التفوّق لأمته، أو لدينه أو لعرْقه، أو لقضيته المقدّسة.

ينزع الرجل إلى الاهتمام بشئونه الخاصة، عندما تكون جديرة بالاهتمام. أما عندما لا تكون لديه شئون خاصة حقيقية، فإنه ينزع إلى نسيان شئونه التي فقدت معناها والاهتمام بشئون الآخرين الخاصة. يعبّر هذا الاهتمام عن نفسه بالغيبة والتجسّس والفضول، كما أنه يتجه إلى اهتمام غير طبيعي بالشئون المجتمعية والقومية والعرقية. إننا عندما نهرب من أنفسنا نلقي بثقلنا على عاتق جارنا، أو نطْبق على عنقه.

***

من أهم ما يجذب الناس إلى الحركة الجماهيرية أنها تقدّم بديلاً للأمل الفردي الخائب. وهذه الجاذبية ذات فاعلية كبيرة في المجتمعات التي تؤمن بضرورة التطور، حيث يبدو الغد شيئاً مثيراً، كما يصبح الإحباط أمراً فظيعاً.

***

عندما نجد أن اهتماماتنا الذاتية واحتمالات المستقبل لا تستحق أن نعيش من أجلها، نصبح في حاجة ماسة إلى شيء منفصل عن أنفسنا نحيا له. إن الإخلاص لحركة ما وإعطاءها الولاء المطلق لا يعدو أن يكون محاولة للتعلق بشيء يمنح حياتنا الفاشلة قيمة ومعنى.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً