لكلية الفقه في النجف الأشرف بالعراق فضلٌ كبيرٌ وتأثيرٌ بالغٌ في ترسيخ الوعي لدى طلبتها من أهل البحرين، بأهمية التعامل مع التراث العربي والإسلامي المخطوط، وإخراج النصوص القديمة، وذلك في الفترة من 1958 لغاية 1981؛ وهي الفترة التي دَرَس وتخرّج منها عدد من طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف، تأثراً بالتوجه الذي أرسى دعائمه الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963م/ 1383هـ) رائد حركة الإصلاح والتجديد بلا منازع، وأثمر – ضمن ما أثمر – هذا الصرح الأكاديمي الذي جمع بين التعليم الحديث والدراسة الدينية التقليدية التي درجت عليها الحوزات الدينية منذ عهد الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري .
وقد تخرّج من هذه الكلية عددٌ من طلبة العلوم البحرانيين الذين كانوا منخرطين – إلى جانب دراستهم الأكاديمية فيها – في الحياة العلمية في الحوزة العلمية النجفية، وكان لهذه الكلية فضل كبير على حركة إحياء التراث الإسلامي، وتخريج نخبة من الطلبة المتميزين من البحرين والمملكة العربية السعودية وسورية ولبنان، الذين قُدّر لأغلبهم بعد التخرّج، أن يشاركوا بأدوار اجتماعية وعلمية ودينية كبيرة في مجتمعاتهم من خلال التأليف والحضور الاجتماعي الفاعل، والمساهمة في الحياة العامة، خصوصاً في حقلي التربية والتعليم، والقضاء الشرعي. وما يعنيني هنا، هو الإشارة بإيجاز إلى أثر هذه الكلية في خدمة التراث العلمي البحريني، من خلال إعداد الطلاب علمياً، وإكسابهم مهارات الكتابة العلمية، وأصول تحقيق النصوص كجزء من متطلبات الحصول على درجة البكالوريوس في اللغة العربية، والدراسات الإسلامية في الفترة المذكورة.
لا تُذكر «كلية الفقه» إلا مقرونةً بالتطلعات التي أمكن للشيخ المظفر أن يحقّقها مع صفوة من أهل العلم والطموح الكبير، ويتحدّث الشيخ محمد مهدي الآصفي عن أستاذه المظفر بكثيرٍ من التقدير والتجلّة لاهتمامه بهذه الناحية من حياة الطلاب، فيقول إن المظفر كان يحاول، في سياق عنايته بموضوع الكتابة، أن يجد من قاعة محاضرات المجمع العلمي وكلية الفقه منطلقاً لمزاولة هذا النشاط العلمي، وكان يبعث روح الكتابة في نفوس إخوانه وأبنائه ويدفعهم إلى ذلك دفعاً، ويؤلف لذلك اللجان، ويعدّ له القاعات كما يعدّ له الوسائل الكافية للنشر. (الآصفي: المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف، ص 162).
وتبعاً لذلك، وجدنا أن عدداً من طلاب الكلية قد تصدّى، بتوجيه وتشجيع من أساتذتهم، إلى تحقيق بعض المخطوطات والنصوص الخطية القديمة، ولعلّ أول الرسائل العلمية التي قُدّمت للكلية «ديوان الشيخ حسن الدمستاني» المتوفى في العام 1767م/ 1181هـ، والتي قدّمها الدكتور عبدالهادي الفضلي في العام 1962 لأستاذ الأدب العربي في الكلية الدكتور عبدالرزاق محيي الدين، ونالت درجة جيد جداً مشرف، ونشرت بعض فصولها في مجلة «النهج» اللبنانية.
عدد من طلبة البحرين قدّم مساهمات قُدّر لبعضها أن ينجو من اليد الآثمة التي دمرت الجانب الأكبر من الإرث الحضاري والعلمي لعدد كبير من مكتبات النجف الأشرف، بينما أصبح أغلب هذا الإرث رماداً على وقع نيران قذائف نظام صدام حسين التي سوّت الغالبية العظمى من تلك المكتبات مع الأرض، في أعقاب الانتفاضة التسعينية التي أطلق نفيرها جنود غاضبون بعد حرب الخليج الثانية، وشاركت فيها مجاميع من شعب مخنوق أنهكه الجوع، وفتكت به الجريمة، الأمر الذي عرّض مدينتي النجف وكربلاء لعملية تدمير ونهب لم تشهدها مدينة عراقية منذ الاجتياح المغولي العام 1258.
من ذلك التراث أيضاً، ما قدمّه على سبيل المثال، الشيخ حسن مكي الغريب (المالكي)، الذي كتب بحث التخرّج بشأن «حياة الشيخ يوسف بن أحمد آل عصفور». أما السيد سعيد جواد الوداعي فقام بتحقيق رسالة «الرضاعية» للشيخ حسين بن محمد آل عصفور (ت 1802م/ 1216هـ).
أما محمد سعيد فضل، من رجال التربية والتعليم، والذي التحق بكلية الفقه وتخرج منها في العام الدراسي 73/1974، فكان بحث تخرجه عبارةً عن تحقيق لرسالة «الاعتقادات» لمحمد باقر المجلسي (ت 1699م/ 1111 هـ) صاحب الموسوعة الشهيرة «بحار الأنوار».
وعلى الأرجح فإن تجربة الدراسة في كلية الفقه فتحت لدى بعض الطلبة أفقاً علمياً وصلهم بتراث البحرين العلمي من أوسع أبوابه بعد سنوات من التخرج، هكذا سنجد أن الدكتور علي أحمد العريبي أحد طلاب الكلية الذي قدّم بحثه للكلية المذكورة تحت عنوان «سكينة بنت الحسين في تاريخ النقد الأدبي»، ونجده يستأنف مهمته مع تراث البحرين العلمي ويقدّم في العام 1992 أطروحته للدكتوراه من جامعة مكغيل (McGill University) بشأن «النهضة الشيعية: دراسة للحالة الثيوصوفية في البحرين في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي»، ونأمل أن يُترجم هذا البحث للغة العربية حتى يُتاح لقراء العربية.
وليس بعيداً عن البحرين، نجد أن القطيفي عبد علي يوسف آل سيف يُقدّم بحثاً في مادة الأدب في الكلية المذكورة للسنة الدراسية 1971/ 1972 بعنوان «القطيف وأضواء على شعرها المعاصر»، وقد طبع هذا الكتاب عام 1985.
وعلى رغم أننا لا نعثر من بين خريجي الكلية من له نشاط بارز وواضح في مجال التحقيق حصراً، إلا أن الكلية استطاعت أن تنبّه إلى أهمية هذا التراث وتؤكد على قيمته ومركزيته في ثقافة الأمة، بوصفه عنواناً لهويتها الثقافية والدينية.
إلى ذلك، كان لوجود علماء وفقهاء عراقيين في المنطقة منذ الربع الأول من القرن الماضي وحتى مطلع الثمانينات، كخطباء أو قضاة شرعيين أو مبلغين، أثرٌ في ترسيخ الاهتمام بالبحث العلمي والعناية بالتراث العربي والإسلامي. وهكذا مثلاً نجد أن وجود شخصيات مثل «القاضي المميز» الشيخ عبد الحسين الحلي (ت 1956م/ 1376هـ)، والسيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب (ت 1993م/ 1414هـ)، وعدد لا يحصى من الخطباء الذين أخذوا يتردّدون على البحرين في شهري رمضان ومحرم من كل عام، ساهم دون شك في توسيع ظاهرة العناية بقضايا التراث ونشره وتحقيقه، وهو ما سنعرض له في مقال مقبل.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5316 - الإثنين 27 مارس 2017م الموافق 28 جمادى الآخرة 1438هـ