النسخة الأقدم من مسرحية تيتوس أندرونيكوس، للكاتب والمسرحي الإنجليزي البارز ويليام شكسبير تعود إلى العام 1594، وتم اكتشافها في العام 1904 في منزل كاتب اتصالات بريدية سويدي، وهذه المرة يُعاد اكتشافها أداء وتصوُّراً وعصْرنة، حين تم تقديمها في 15 مايو/ أيار 2014)، على مسرح غلوب الشهير في العاصمة البريطانية (لندن).
المسرحية بحسب رصد النقاد تُعتبر من أكثر الأعمال التي تحوي أفعالاً ومواقف دموية من بين أعمال شكسبير. لم تكن المسرحية ذات بال أو حضور وأهمية خلال العهد الفيكتوري، بسبب دمويتها طبعاً، إلا أنها استطاعت أن تستعيد وهجها وشعبيها وحضورها في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، وتبدَّى حضورها أكثر بتقديمها ضمن رؤى ومعالجات مختلفة، تولاها مخرجون عالميون من المملكة المتحدة وليس انتهاء بالولايات المتحدة الأميركية. ومازالت محاولات النظر إليها ومعالجتها مستمرة في أكثر من بقعة في العالم.
في تفاصيل المسرحية نقف على تيتوس الذي يعمد إلى قتل تامورا انتقاماً، ولا يكتفي بذلك، بل يقتل ابنته ليمحو عارها... الامبراطور يقتل تيتوس... في تفاصيل الدموية التي تكاد لا تنقطع... لوسيوس ابن تيتوس يقتل الامبراطور وينصّب نفسه امبراطوراً... ثم يقتل هارون، حيث يكون نصف مدفون كي يكون عرضة للضواري والكواسر... وصولاً إلى عدم إقامة مأتم لتامورا ورميها في الغابة. من بين الشخصيات الرئيسة في المسرحية: ألارباس، ديميتريس، شيرون، ساتورنيوس «ابن آخر إمبراطور روماني، الذي يصبح امبراطوراً بعد ذلك».
هل يمكن أن يتصور أحد أن ناقداً من بني جلدة شكسبير، وهو الناقد إدوارد رافنسكروفت، قد كتب ما يشبه النبوءة بأن المسرحية ما هي إلا عبارة عن «حفنة قمامة»؟ لم يكتب ذلك في نهاية القرن العشرين أو مطلع الألفية الجديدة، بل في العام 1687م، وهي الفترة التي شهدت ولعاً غير عادي بالمشاهد الدموية التي تحويها الأعمال المسرحية.
الحزن... الشفاء بالمسرح
نعيش في زمن قاتم وخطير. مثل تلك العناوين تتضح كل يوم، ولكن تُرِك الأمر إلى المسرح ليذكِّرنا بأن الأمر كذلك، أكثر من أي وقت مضى. الفَرْق هو أن مشكلات الحياة بالنسبة إلى الذين يلجؤون إلى عالم الفن، يمكن في بعض الأحيان أن تحقق رد فعل وتأثيراً مفيداً. بقدرة البشر على تجاوز تلك المشكلات. ذلك هو السبب في أن الأسى على خشبة المسرح يمكن أن يكون سبباً للشفاء ومدعاة له، بينما في الحياة هو مجرد حزن، الطرق إلى تجاوزه أكثر تعقيداً وكلفة.
تلك كانت في الثنايا بعض مقدّمة مراجعة مات وولف التي كتبها في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 15 مايو/أيار 2014، لعرض مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، على مسرح غلوب الشهير في لندن، المسرح الذي تم إنشاؤه العام 1598، وأقيم عليه العرض الأول لأكثر مسرحيات شكسبير شهرة وصيْتاً.
هنا لابد من لمحة عن المسرحية كي يتمكن القارئ من معرفة شخصياتها الرئيسة، والأدوار التي لعبتها في عمل شكسبير، على رغم تعدّد المعالجات والرؤى في تقديمها بعد قرون من كتابتها وتجسيدها الأول.
«تيتوس أندرونيكوس»، أحد الأعمال المأسوية المبكّرة للأسطورة شكسبير، تُمثل أحد القادة الرومان الخياليين، منخرط في دائرة من الانتقام مع عدوّته «تامورا»، ملكة القوطيين، المسرحية تعدّ من أكثر الأعمال اكتنازاً وازدحاماً بالدموية لشكسبير، والتي استمدّت إلهامها من أعمال سينكا «من القدماء الرومان»، وعلى رغم أن المسرحية فقدت شعبيتها في عهد الملكة فكتوريا لدمويتها إلا أنها استجمعت شعبيتها تقريباً منذ ما قبل منتصف القرن العشرين إلا قليلاً.
المسرحيات من حيث هي رؤى فنية تحمل معالجات، وتطرح أسئلة، وفي كثير من الأحيان لا تنشغل بالإجابات، في تداعٍ نتوقعه لدى شخصياتها، لا تكون منبعاً وبؤرة أذى، وإن حدث ذلك لن يكون مثل ذلك الأذى بمستوى أذى «تيتوس» في العمل الذي تمت تأديته على «مسرح غلوب».
تكريم الوحشية
«تيتوس»، على النقيض من ذلك، هنالك نوع من التباري والاستباق من أجل النيْل حدّ التشويه والموت. يحدث ذلك في البدايات من العمل. في وقت مبكّر منه. يبدأ مع تقرير مفاده أن 22 من أبناء القائد العسكري لقوا حتفهم في القتال بروما، وهذا كله قبل أن تتضح ملامح السرد في بنية المسرحية، بالذهاب إمعاناً وتوغّلاً في الذبح والركْل والمجازر التي تمتد لتشمل الاغتصاب وتقطيع أوصال ابنة تيتوس، لافينينا، لتصل إلى تحوّل أبناء الملكة إلى خدمة القوطيين، وإعداد فطيرة في حال من الابتهاج والتي تُقدم إلى تيتوس (يقوم بدوره وليام هيوستن) باعتباره الشيف (الطبّاخ)، آكل اللحوم الأكثر جنوناً في المعمورة كلها. وحتى «سويني تو» لم يكن مخبولاً بحيث يجاريه كما هو الحال مع «تيتوس».
في السؤال البديهي: كيف، إذن، يمكن أن تجعل مأساة مسرحية لشكسبير، التي قدمت في وقت مبكّر، أكثر تهافتاً وإقبالاً عليها من المسرحية التي ستليها بعد سنوات؟ وهو الشيء المختلف الذي يمكن معاينته في مسرحية «الملك لير». هل تبدو «الملك لير» وكأنها مسرحية للأطفال؟!
المخرجة لوسي بيلي تقترب في العمل من الاحتفاء وتكريم الوحشية والشعر في النص على حد سواء. يحتاج ذلك إلى قدرة استثنائية أيضاً. من دون الخيال لا معنى لأي قدرة يمكن أن تبرز وترتجل في هذا المقام، في حين تُظهر «الاستعارات» و «القفشات» التي يتم «اقتباسها» مليئة بالفكاهة.
مع ذلك، ركّزت بعض الدعاية المحيطة بالإنتاج مع مرور الوقت على عدد من الرعاة الذين تعاقبوا على العمل، ومن خلال عرض أداء واحد للمسرحية، يقال إنه وصل إلى 43 راعياً، بحيث يُسجَّل له بأنه الرقم القياسي لكل عرض حتى الآن.
نجحت بيلي في معالجتها سابقاً لهذه العمل في مسرح غلوب الشهير العام 2006، مع «تيتوس» وذلك ما أدّى إلى هذا الظهور المتشابك والمتعدّد للعمل، وإن كان طاقم الممثلين مختلفاً.
المهرّج... آيكبورن
وفي إضاءة لدور الشركات العائلية الصغيرة يلعب «المهرّج» آلان آيكبورن بالكاد دوراً هو ما دون الرؤية المُحسّنة لجانب الخيرية في ذلك العمل المليء بالدموية والوحشية، يتجاوز الدور الهامشي مع ذلك - الخيرية التي يمكن أن تتوافر لدى «تيتوس».
تحضر الشركات العائلية الصغيرة (في النص المُعصْرن للعمل)، متساوقة مع دور آلان آيكبورن، في مدى القدرة والامكانات؛ وحتى سعة المناورة. فمثلما تحتاج تلك الشركات إلى رؤوس أموال ضخمة وخرافية، يحتاج آيكبورن إلى فظاظة وغلظة نفس وغياب روح كي يتمكّن من مجاراة «تيتوس».
أعداد القتلى يُعدّون على أصابع اليد الواحدة. القتلى لدى «تيتوس» والذين هو في مواجهتهم يكادون أن يسدّوا الأفقّ! وعليك أن تكون سعيداً لسماع ذلك. أتيحت للمسرحية في عرضها الأول تحت إشراف المؤلف معالجة وتناول جديد ومُعصْرن في العام 1987 في المسرح الوطني؛ إذ تم بعد ذلك النظر إليها على نطاق واسع على أنها نقدٌ للجشع ونقد في جانب منها للتاتشرية في تلك المرحلة من الزمن.
يعود العمل على نطاق واسع إلى المسرح نفسه، وهذه المرة يتم توجيهه من قبل آدم بينفورد، ولغة السياسة لم تعد ضرورية ومفصْلية وحاسمة لتحديد سطْوتها وقوتها ومدى تأثيرها، كي تتمكّن من إيصال قيمة تضع فواصل بين الدموية والعنف والقتل والاغتصاب، وتفاصيل الأسْر، وبين أن تتوهم إمكانية الحياة بشكل طبيعي في ظل كل تلك العتْمة والكوابيس. ما الذي تغير؟ قد تسأل. في كلمة واحدة: لا شيء، وهو ما يفسر، لماذا يتحدث آيكبورن أكثر من أي وقت مضى عن هجاء الفساد المتورط فيه الإنسان على مدى عقود وليس فقط في مكان ووقت معينين. ثمة غض طرْف عن الممارسة نفسها في زمن ومكان معينين! هل العاصمة (لندن) هي موضوع غضّ الطرْف؟ أسأل!
مزاحمة الكوميديا للرثاء
التركيز هنا ليس على ساحات القتال في العصور القديمة ولكنه على السطو الذي حدث من قبل الطبقات الوسطى الإنجليزية التي تم تحديد حيّزها ونطاق تحرّكها وعياً وأدواراً وتفاعلاً، وأداء من قبل الكتّاب المسرحيين لها عبر ما يقرب من 80 عملاً يؤرّخ للانحلال الأخلاقي للأُسر في الضواحي التي يُقدّر أن الجميع وبدرجة ما قد تم تصييرهم إلى التوجه نفسه؛ بالدخول في دائرة الانحلال تلك.
فصول المسرحية توحي بفناء سهْل لمرتكزات أولئك الثقافية (المصابون بالانحلال). تحضر «الكوميديا» في مزاحمة وصراع مع «الرثاء». الرثاء الذي يبدو غالباً بطبيعة العمل الذي لم يخْلُ من الدم، فيما الكوميديا كانت ساتراً وسدّاً ومانعاً من فقدان السيطرة والتحكّم في كل ذلك، على امتداد الأداء لإسدال الستار في نهاية المطاف: على الألم!
يتم أداء دور الأب، جاك مكراكين، الذي ينتهي دوره الأخلاقي بشكل مطلق؛ حيث يذوي بشكل لا يمكن أن تغفله عين، وقد جسّد دور مايكل جامبون بشكل مذهل ورائع في العرض الأول، وأثبت نايجل ليندسي بأنه وريث جدير هذه المرة، بلعبه دور كل شخصية بشكل عميق وسط طبيعة لا مواربة فيها، ليندسي هو نفسه تجاوز ليندسي عندما ظهر كما الغول وسط موسيقى «ويست إند»!