من أهم مشكلات الرواية التاريخية «عادة» أحاديّة اتجاهها. بمعنى، أن تأتي الرواية خالية من أقوال أطرافها المتعدِّدين. لذلك، قُدِّمت لنا الكثير من الوقائع بشكل «مُشوَّه» أو «مبتور» أو «مُجيَّر»، وبالتالي هي تنتصر لِمَن كَتَبَها وما يؤمن به وما يرى أنه يجب أن يُقال ويُعلَم، وخصوصاً في القضايا الكبرى.
المشكلة أن ذلك اللعب بالتاريخ ووقائعه لا يُغيِّر في «اتجاه الرؤية» نحو قضية ما وحسب، بل وحين يُبدِّل في مواضع الحقيقة، يظهر تلاعب غير مُدرَك لمواقع وشخوص الحدث وزمانه حتى، والذين يتبدلون طبقاً للتجيير الذي يتم استخدامه، كما حدث على سبيل المثال لحقبة ربيعة اللخمي.
بالتأكيد، نحن لا نقول بأن ذكر الروايات أو وجهات النظر الأخرى هو يأتي بالحقيقة الضائعة حتماً، لكننا نعتقد بأن ذكر تلك الرؤى، والمواقف يُساعد على خلق مقاربات أكثر موضوعية، كونها تمنحنا فضاءً أوسع للتفكير والتأمُّل والمفاضلة في أجزاء الحدث. وكلما تعدَّد الرواة كان ذلك أكثر فائدة.
أقول ذلك ونحن نعيش في مجتمعات لا تتمتع بـ «النقاء العِرقِي» ولا «الديني» تاريخياً. فالشرق وتحديداً المنطقة الممتدة من الهند مروراً بفارس حتى العراق وصولاً إلى أقصى المغرب وعلى مدى تاريخها الممتد، كانت مقراً للأديان السماوية الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأخرى أرضية وقديمة كالمجوسية والأسبذية والهندوسية. لذلك ظلت هذه المنطقة حبلى بالحوادث الكبرى والمهمة.
ولأن الغَلَبَة كانت حليفة لطرف دون آخر، فقد وقعنا في الكثير من الإشكاليات ليس على مستوى «الرواية الدينية» وحسب (والتي ليس مجالها الآن) بل حتى في النظرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحوادث، حين كُتِبَت وفق رواية «الغالب» و»المنتصر» مع تغييب لرأي المهزوم فيها.
قبل فترة نُشِرَت الطبعة الأولى ليوميات كَتَبَها ديونوسيوس دي تلمحري، الذي كان يعمل كـ بطريرك أنطاكيا ورئيساً للكنيسة السريانية الأرثوذوكسية بين عامَيْ 818م – 845م، ترجمها أحد أهم المهتمين بالتاريخ السرياني وهو بطرس قاشا الذي حَمَلَ لقب «شمَّاس» الذي تعني الخادم في الكنيسة، والذي يضطلع بدور المساعد أو المعين للكاهن في تسيير الأعمال الدينية له فيها.
وقد أخذت مسئولية ذلك مشكورة المنظمة العربية للترجمة التي يُحسَب لها الجهد الذي تبذله في مجال نقل العلوم في مجالاتها المختلفة، إنْ كان في أصول المعرفة أو الفلسفة أو التقنيات أو العلوم الإنسانية أو الآداب والفنون أو اللسانيات والمعاجم وترجمتها من لغات أجنبية إلى العربية.
روايات الوقائع التي سجَّلها ديونوسيوس دي تلمحري تشمل 187 سنة ، تبدأ من العام 587 م ولغاية العام 774م. وهي سنوات مهّمة اعتملت فيها الصراعات والحروب والهجرات وغَلَبَة أطراف على أخرى. ولكونه أسقفاً لذلك نجده يبدأ بسنوات وفيات الشخصيات الدينية المسيحية والحكام. لكن المهم فيها كذلك أنه يذكر وقائع أخرى تتعلق بالفلك والأنواء والقضايا الاجتماعية.
فيذكر كيف «حدث ظلام قاتم وسط النهار، وكيف ظهرت النجوم كما في الليل، دام نحو ثلاث ساعات ثم تلاشى الظلام وظهر النهار كالعادة». وكان ذلك في سنة 601م. كما يؤرخ لوفاة يوسطنينا (590م) والقديس بطرس الثالث القلنيقي (591م).
يذكر تلمحري أمراً يمكن قراءته بصورة تاريخية مختلفة. فهو حين يتحدث عن دخول المسلمين إلى فلسطين حتى نهر الفرات، فإنه يشير إلى أن ذلك كان في العام 621م وليس كما هو معروف ما بين عامَيْ 636م – 6378م، إلاّ أنه يعود ويقول بأن «العرب» استولوا على مدينة قَيساريّة بفلسطين في العام 642م أي بعد 21 عاماً تقريباً، وهو أمر مثير.
ومن الحوادث التي يذكرها تلمحري هو توثيقه لـ «الوباء الشديد» الذي ضرب الأرض «حتى أن الناس لم يكونوا يخرجون الموتى، واشتدّ خاصة في منطقة سَروج (منطقة شمال سورية اقتطعها الفرنسيون وأعطوها للأتراك خلال معاهدة 1923) ومات بهذا الوباء من دير مار شيلا اثنان وسبعون شخصاً» دون أن يذكر طبيعة الوباء، لكنه حتماً ليس طاعوناً لأن الطاعون كان معروفاً.
كما يصف التوابع التي تخلفها الزلازل في المدن فيقول بأنه وفي العام 718م «حدثت هزة عظيمة ومخيفة» تهدّمت على إثرها أماكن كثيرة «من بينها الهياكل والكنائس القديمة في الرُّها، وأيضاً عمارات كبيرة وأبنية شاهقة، سقطت على سكانها، والتي لم تسقط صارت فيها علامة» حتى أن «بساتين كثيرة خربت وأشجار الفاكهة فسدت» لكنه لا يذكر المكان الذي حدثت فيه.
وخلال حديثه عن خلافة يزيد بن عبد الملك فإنه يتحدث عن فارق في التاريخ قوامه 5 سنوات تقريباً. فهو يشير إلى أن يزيد تولى الحكم في عام 106 للهجرة، بينما المشهور هو أنه تولاها في العام 101 للهجرة. لكن المهم في ذلك هو تفصيله للعلاقة التي كانت تربط هذا الخليفة بالمسيحيين.
فيذكر أن يزيد أمر بأن «تُمزّق جميع الصور أينما وُجِدَت في الكنائس والأديرة والمعابد والبيوت الخاصة» مظهراً علاقة مضطربة مع المسيحيين، لكنه يذكر (أي تلمحري) بأن يزيد بن عبدالملك أصدر أمراً بأن لا تُسمع شهادة النصراني على المسلم، ثم جعل فدية الرجل المسلم 12 ألفاً، ودِيَة الرجل النصراني 6 آلاف» إلى أن يقول: «استعيض عن قطع يد السارق بقطع فديته».
لا أريد الإطالة في سرد الوقائع لكن الحقيقة أن كتاب تلمحري ثري بالمعلومات الجديدة، التي ربما لم نسمع بكثير منها في المصادر التاريخية المعروفة لدينا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5315 - الأحد 26 مارس 2017م الموافق 27 جمادى الآخرة 1438هـ
ما اكثر الرواة وما اكثر القيل والقال!!
فكثرة الروايه في زمن تغيب او تغيبت عن الحضور الريويه في ان اكثر الرواة قد يكونوا غير حاضري الواقعه ثم اكثر الرواة مثل شاهد لكنه لم يرى شيء وانما روى عنه غيره كي يعدل او يصحح كذبة على المصطفى محمد مثلا. فهل اتاك حديث موسى? وهل اتاك حديث الجنود فرعون وثمود? فهل احاديث القرآن تحتاج إلى سندات ومستندات? ال اذا كان البعض يشك في ان القران مزور وليس له م اجع كما في الكتب الغير سمايه?
مقال رائع يستحق القراءه.
وما غاب هو الاهم