لم يكتب لي الله أن أنعم برؤية جدتي لأمي ولا لأبي رحمهما الله، لكنني عرفت معنى الجدة من خلال ما أراه في العائلة، سواءً في بيت أمي أو في بيت والدة زوجي رحمه الله.
اللهفة التي تعتري أطفالنا حين تغيب جداتهن في أي بيت. نظرة التبجيل التي يرمقونها بهن كلما قمن من أماكنهن، ولابد من ذكر أنهن لا يقمن غالباً إلا لكي يحضرن لهم شيئاً مما يحبون: حلويات، «جبس»، فاكهة محببة لشهيتهم، هدايا، شوكوليت وغيرها. السعادة التي ينعمون بها كلما ارتموا في أحضانهن. الدلال الذي يسقنه عليهن حين يوبخهم أحد. فرحتهم بحنانهن حين يلعبن بشعورهم أو يمررن أكفهن على رؤوسهم حين يمرضون ويرتمون في أحضانهن. والقائمة تطول لتلك المشاعر التي ربما لا تتضح إلا في حضورهن. هذه المشاعر التي تبعث على الامتنان؛ امتناننا نحن أمهاتهم وآباؤهم لهذه الأم العظيمة التي لولاها لما كان أيٌّ منا على هذه الأرض.
مشاعر تجعلنا نحمد الله على وجود هذه الخبرة في الحياة معنا، وهذا القلب الذي لا «ينحني إلا ليحنو» إن جاز لي استخدام تعبير الشاعر قاسم حداد البليغ. وحتّى ونحن نبدي تململنا أحياناً من طريقة تدليلهن لكل طفل في العائلة، حتى باتوا جميعهم يعرفون أن ما هو ممنوع في المنزل سيكون مسموحاً وأكثر في بيت الجدة التي تطالب دائماً بأن نكون رحماء بهم، وأن لا نقسو عليهم لأنها تعتقد بأن التربية لابد أن تكون حانية، حتى وإن كانت توبخنا حين نخطئ عندما كنا صغاراً، لكنها اليوم لا تريد لأي من أحفادها أن يُوبّخ أو يُصاب بأذى نفسي أو يُمنع من شيء يحبه.
الجدة التي ما إن ننظر إلى تجاعيد كفيها أو تلك الخطوط المرسومة حول عينيها، حتى نتذكر الحكمة والتفاني والنضال والتعب الذي عاشه جيل كامل؛ ليؤمّن لقمة العيش أو يرسم طريقاً لتغيير بلادنا نحو الأفضل. فكم من معلمة، وطبيبة وممرضة وعاملة، وربة بيت وإدارية ومناضلة سياسية وحقوقية... والقائمة تطول بين كل تلك الجدات؟ بعضهن توقفن عن العطاء في مواقع أعمالهن ووظائفهن، لكنهن يكملن مسيرتهن كأمهات وجدات لا يتكررن، وبعضهن مازلن يقدّمن خبراتهن في مجالاتهن المختلفة.
سألتُ طفلي مع اقتراب عيد الأم: ماذا تعني لك جدتك؟ فأجاب: كل شيء! هي الأم الثانية، الصديقة، التي تمتلك طيبة خيالية، وأنا لا أعرف كيف يمكن لي أن أرد لها جمائلها وكيف لي أن أشكرها على كل ما تفعله من أجلنا، ليت جدتَيَّ توافقان على العيش معنا في منزلنا!
وبالفعل، أكثر ما يميّز الجدات هو الطيبة. تلك الصفة التي تشترك بها جميع الجدّات تقريباً، حتى نظن أنها عُجِنَت بطينتهن. وذلك الحنان الاستثنائي، والرغبة في تفادي كل خطأ وقعن فيه حين كن أمهات، كي لا تقع فيه بناتهن أو يقترفه أبناؤهن في طريقة تعاملهم مع أبنائهم.
الجدة، ذاك النهر المتدفق من الخبرات الحياتية، والموسوعات اللامتناهية من القصص والحكايات التي تسردها وقت الملل، أو الضيق أو الرغبة في تغيير وقت الصمت حين يكون الجميع مشغولاً بهاتفه المتنقل، أو تلك التي تُقال حين تريد توجيه رسالة ما من غير أن تصدم متلقيها أو تحرجه.
لكل جدّة على هذه الأرض: أنت نعمة عظيمة فشكراً لك!
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5315 - الأحد 26 مارس 2017م الموافق 27 جمادى الآخرة 1438هـ
جدتي العزيزه من بيتنا قريبه لكنها رحلة إلى رحلة لا يرجع او يعود منها احد. الا ان طيفها وذكريات باقية في الذاكره. يعمي من الجميل ان ترى اما وابا وجدا وجدة . اي اسره غير نوويه وانما نواة المجتمع الاسرة المتكامله. اليس كذالك?