ولد الفقيد الشاعر منصور الشيخ إبراهيم آل مبارك في سبتمبر/ أيلول 1971م، حيث ترعرع في قرية عالي بالبحرين. وعلى رغم وفاة والده وهو بالكاد يبلغ الثامنة من عمره، إلا أن ظِلَّ الوالد الشيخ إبراهيم وصيتِه وكتبه وأشعاره بقيت حاضرة في حياة الأبناء والبنات الذين عاشوا في ذلك البيت الكبير، وهم يرون غرف والدهم مغلقة ومجلسه مقفلاً لم يشغلها أحد من بعده.

تأثّر الأبناء بذلك الظِلّ الذي ظَلَّلهم به والدهم بعد أن رحل، إلا أن ذلك الأثر تبدّى أكثر ما تبدّى على منصور، متمظمهراً عبر قريحته الشعرية التي تفتَّحت باكراً، فأخذ يردد قصائد والده، ويحاول تقليدها، حتى اشتدّ عود شعره، فصار أثر شعر والده عليه تناصاً لم ينفك عنه، على رغم تفرّد صوته الشعري وتغاير انشغالاته عن أبيه. كان معتزاً بوالده فكتب عنه من قلبه ووجدانه كما عبّر. ومن أمثلة شعره الذي يبدو فيه ظِلّ الأسلوب الشعري للشيخ إبراهيم:

أتاني الدهر يعصفُ كالليالي

يفوق بظلمه كلّ الخيالِ

ويلقي رمحه شزراً كأني

أقاتله فيمعنُ في قتالي

ينازعني الصمودَ وكنتُ فرداً

شديدَ البأسِ يشمخ كالجبالِ

درس الفقيد الهندسة الكهربائية في جامعة البحرين، وتنقّل في العمل بين شركات القطاع الخاص التي جرّب فيها العمل المضني والعائد القليل، حتى استطاع أخيراً أن يلتحق كفنيٍّ بوزارة الكهرباء والماء. تزوج وأنجب ثلاثة أبناء: محمد وصادق وعلي، وابنة واحدة هي ليلى. التحق بالدراسة انتساباً في جامعة بيروت العربية فرع الإسكندرية في جمهورية مصر العربية، لكي يواصل دراسته في اللغة العربية التي أحبّها، وتمنّى في أول شبابه أن يدرسها في جامعة البحرين لولا ظروفه التي أجبرته على دراسة الهندسة الكهربائية. نال شهادة البكالوريوس في اللغة العربية بتقدير لم ينل مثله إلا القليل من المنتسبين.

عرفه الجميع بصفات التديّن، وحسن الخُلق، والوفاء لمن عرفهم وصادقهم وزاملهم. أما أنا فعرفته أخاً وصديقاً منذ الصغر، فبسبب تماثلنا في العمر فقد قطعنا مراحل الطفولة معاً. خلال سنواتنا الابتدائية في المدرسة، ترافقنا في المشي الطويل من قلب عالي وراء المقبرة حيث كان بيتنا، إلى المدرسة التي تقع على مشارف القرية في المنطقة الجديدة (وقتها) والتي تسمّى «إسكان عالي». كان ذلك المشوار الطويل مدعاة إلى مغامرات وأحداث طفولية، أكثرها تسابقٌ في الطريق، ولكنها وصلت أحياناً إلى الاختلاف والعراك الطفولي. أما المحطة الأبرز في ذلك الطريق فكان التوقف قبل العودة إلى البيت لأداء صلاة الظهرين في جامع عالي الكبير، الذي كنا نعي ونحن صغار أنه كان مخطَّطاً له أن يكون مقرّ صلاة الجمعة التي أقامها والدنا في الجامع القديم، لكن المنية عاجلته في فبراير/شباط 1979م قبل اكتمال الجامع الكبير. رأينا في الجامع ظلّاً لوالدنا فأحسسنا فيه بالألفة. وأتذكر أنني يوماً - ربما ونحن في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي - افتقدت منصور بعد الانتهاء من صلاتي، فخرجت إلى الصحن أبحث عنه لأراه متوقفاً يتهجى القصيدة التي كتبها والدنا للمسجد، وكانت منقوشة بخط جميل على قاعدة المنارة التي تطلّ على صحن المسجد. ربما كان ذلك أول شعر يقرأه منصور غير أناشيد المدرسة. وربما كانت معرفته أن والده الغائب كتبها هو الذي دفعه إلى محاولة قول الشعر في وقت مبكر جداً.

في سنوات الابتدائية المتقدمة والإعدادية، مارسنا معاً أو تنافسنا في عادات «ثقافية» في البيت، ورثناها عن إخوتنا الكبار. فأسّس كلّ واحد منا مكتبة لنفسه، يعير كتبها ومجلاتها للأخوات والإخوة. وتنافسنا أيضاً في تحرير المجلات التي كنا نخطّها بأيدينا. وبينما توقفت أنا عن هذا النشاط منذ دخلت إلى الثانوية، إلا أن منصور واصل فيه، يدفعه حسّه الديني لممارسة الكتابة التوعوية. يُخبرني صديقه ورفيق دربه حسين محمد حبيب عن الحس القوي للمبادرة الذي أبداه دائماً للمشاركة في الأنشطة التعليمية والدينية التطوعية في القرية، ومساهماته النشطة في الجهود التعليمية في المركز التعليمي الثقافي في عالي. فكان معلماً يتطوع للتعليم في لجان التعليم والأنشطة الدينية، بالإضافة إلى التطوع بتعليم أبناء وبنات أفراد عائلته اللغة العربية والقرآن الكريم. لكن الشعر كان دائماً هو مجاله الخاص الذي لم ينقطع عنه، يشارك عبره في الأنشطة الدينية، ويتواصل به اجتماعياً وأسرياً، ويقول فيه ما يريد بدون قيود.

كان الشعر إذاً مفترقاً آخر بيننا في مرحلة الشباب، فبينما حاولت منافسته في كتابة الشعر ونحن صغار، إلا أنني ابتعدت عن الشعرِ لاحقاً، فيما كان هو يبني ملكته الشعرية ويقوّيها. بين يديَّ الآن مجلة مخطوطة أكملها في يناير/كانون الثاني 1991م (وهو في أول سنة جامعية)، كتب فيها مواضيع مثل «صراع بين الضمير والنفس»، ودعاء ألّفه بنفسه، وقسماً أسماه «نافذة إلى الشعر» تدلّ على اهتمامه بقراءة الشعر من مصادر مختلفة، ومما نقله في هذا القسم قصائد لمحمود البارودي، ونازك الملائكة، وأحمد شوقي.

أخذه حبّه للشعر إلى التعمّق في قصائد والده فحفظ الكثير منها. أخذه شعره إلى الناس أيضاً، فجال في الاحتفالات الدينية في جميع أنحاء البحرين، مشاركاً مع الشعراء والمتحدّثين في إحياء مواليد ووفيات أئمة أهل البيت (ع)، اللذين تعلّقت روحه بهم، فقال الشعر فرَحاً وفخراً في مواليدهم، وحزناً وتعلُّقاً في وفياتهم. كما كانت له مشاركات نشطة في المنتديات الأدبية الافتراضية التي راجت في نهاية عقد التسعينيات والعقد الألفيني الأول قبل ظهور برامج التواصل الاجتماعي، منها «منتديات البحرين»، ومنتدى «هجر الثقافي»، ومنتدى «متكأ».

ولمّا كان يتنفس الشعر، والقصائد تقوله وليس هو الذي يقولها - كما أخبرني مازحاً مرة - فقد جاء شعره في مواضيع كثيرة، أهمها «الحبّ والصداقة». ففي الحبّ قال عن حبّ الله، وحبّ أهل البيت (ع)، وحبّ زوجته ورفيقة دربه، وحبّ أهله. وقال أيضاً في الصداقة، فكانت له عدة قصائد في أصدقائه، خصّ بعدد منها صديقه المقرّب وزميله في الشدّة حسين.

أحب الفقيدُ الشيخَ عبدالأمير الجمري (1937م - 2006م) ككثيرٍ من الشباب الذين وجدوا في الشيخ في فترة التسعينيات من القرن الماضي رمزاً وطنياً يدعو للتوحد والسلمية. ولكن منصور ارتبط به بعلاقة أكثر خصوصية، لأن الشيخ كان شاعراً أيضاً فكان ذلك سبباً لالتقائهما في مراسلة أدبية كانت مناسبتها قراءة منصور لديوان الشيخ الجمري «عصارة قلب» كتب بعدها «تقريضاً» شعرياً أرسله مع رسالةٍ للشيخ، مطلعه:

(عصارة قلب)ـك في مهجتي

تصب فأشعر مما تعي

(نفوراً) عن الزيف والانحطاط

و(دفعاً) إلى الصالح الأرفع

فينطلق الفكر مني انطلاقاً

وعقلي وقلبي إلى ما تعي

فأجابه الشيخ الجمري رحمه الله برسالة دلت على تواضع الشيخ وتقديره لهذا الشاعر الشاب، فخاطبه خطابَ شاعرٍ لشاعر، وأرفق مع رسالته قصيدة جوابية، فتح له فيها قلبه، معبراً عن أمنيته العزيزة على قلبه في أن يتوحد المسلمون، فقال فيها:

تفضّلت يا أيها الألمعي

بتحريرك الأجمل الأروعِ

فأحسنت ظناً بهذا الفقير

فطوبى لك الأصل من منزعِ

وألبست ديوانه حلةً

بما قلت في نظمك الأرفع

هكذا قضى الفقيد سنوات عمره القصيرة، يعطي من وقته لعمله ولعائلته، ولكنه يعطي الكثير أيضاً لمجتمعه عطاءً تطوعياً لا طمع فيه بمال أو مكانة. فمن يراه أول مرة في بساطته وتواضعه لا يعرف كمّ وجودةِ ما أنجز في حياته.

قبل عام، فاجأه المرض الخبيث، فظلّ يقاومه بروح الأمل وحبّ الحياة، ولم يستسلم له وهو يأكل جسده، فبقيت روحه مرحة، وشعره متوقِّداً، فرثى أخويه الأكبرين الشيخ علي والحاج حميد اللذين توفيا هذا العام. كما عملنا معاً - بقدر ما سمحت طاقته - على جمع وتنقيح مختارات من شعره، ستصدر قريباً في ديوان بعنوان «دفاتر الصحو».

في أواخر أيامه، وقد أنهكه المرض، قال لأخيه الأكبر جميل الذي أعانه في الصراع مع المرض واعتنى به عناية الوالد بولده، أنه لا يخشى قدره، وأنه راضٍ عن نفسه، وأنه سعى بكلّ إمكاناته لكي يعيش ليحقق أهدافه في الحياة، وأن أمله بالله غير محدود... بهذه الروح الحيّة ترجّل الفقيد منصور وفارق الحياة في صباح يوم الجمعة الموافق 17 مارس/آذار 2017.

في زيارتي الصباحية له قبل أربعة أيام من وفاته، كان الكلام يجهده. اقترحت عليه أن أقرأ له قليلاً من كتاب لديه فوافق. غفا في منتصف الصفحة الثانية فتوقفت عن القراءة. وبينما كان صامتاً في صحوه، أخذ يتمتم وهو غافٍ، فخطر لي أنه ربما كان يريد أن يقول شعراً كتبته على لسانه، وكان ذلك في يوم وفاته 17 مارس 2017:

أنام وأصحو وهذا الجسد

ينوء بحملِ سنين ثقالْ

سنونٌ رمته بداءٍ وداء

ولكن روحي تهز الجبالْ

أتمتم في الغفو ما أتمنى

وفي الصحوِ... يا ليته الصحو طالْ

يجولُ بروحي كلامٌ ولكن

لعل الذي قلتُ يكفي المقالْ

نماذج من شعر منصور آل مبارك

في الحبّ:

اُغرُفوا رعشة الندى

ثم ذُرُّوه في المدى

واسمعوا نبضةَ المحبّ

إذا جلجل الصدى

حدقاتي حدائقٌ

بكِ أُوقفن للهدى

في حبّ الله:

طارَ قلبي ولم أَزَل

أكبُتُ الحبّ والأرَق

حينما كنتُ غارقاً

بشذى العطرِ والعَبَق

ذا نسيمُ الهوى وقد

لاحَ للقلبِ فانْفَلَق

ما لَهُ لا يطيعني...

أَلِسَهْمِ الهوى سَبَق؟!

في حبّ زوجته:

يا أملحَ الناس إن الأصغرين هنا

شبّا بحبّكِ ناراً حكمها الأبدُ

وددت وضعكِ في عيني فخفت بأن

يمسّ عينك منها الملح والرمد

في حبّ والده الشيخ إبراهيم آل مبارك:

سأكتب الشعر من قلبي ووجداني

وأذكر الفضل فيمن كان رباني

يا والدي:

كنت فينا عالماً... علماً

وعاملاً نشطاً...

والوالد الحاني

في حبّ القهوة:

ولذّة القهوة في صنعها

وفي ارتشاف الزبد العاثرٍ

وفي اقتناص دفئها عندما

يرشفها فاه الفتى الغامر

فالريح إما عانقت أجفلت

من عبَق استنشاقها العاطر

والعينُ مذ كوّنها لونُها

وشكلها في بزّة الآسر

تآزر الماء وإخوانه

ولم يك البنُّ سوى الآمرِ

تقريض ديوان «عصارة قلب» الشيخ عبدالأمير الجمري

(عصارة قلبـ)ـك في مهجتي

تصب فأشعر مما تعي

(نفوراً) عن الزيف والانحطاط

و (دفعاً) إلى الصالح الأرفع

فينطلق الفكر مني انطلاقاً

وعقلي وقلبي إلى ما تعي

ففكري: في سلك منهاج من

دعاني إليهم وقال اتبعِ

وقلبي: في سبْر أغواره

إلى ما يُخطُّ بلا إصبعِ

محبّة آل الرسول الكرام

ومعناه قد سطّر الشافعي

هنيئاً لوالدنا في الجزاء

هنيئاً لعالمنا الأروعِ

هنيئاً لعبدالأمير الجزاء

ووفّقه الله للأرفعِ

توقد فكري مما كتبتَ

فأبرق من ضوئك الألمعِ

وقِدْتَ الجوارح مما شعرتَ

إلى أنْ أُجيبك بالأدمعِ

بهذا أُعرّف ديوانه:

(عصارة قلب) لمن يخشعِ

منصور آل مبارك

ورد عليه الشيخ الجمري رحمه الله برسالة: إلى الولد العزيز منصور الشيخ ابراهيم المبارك دام موفقاً محروساً، آمين

تحيةً وأشواقاً إليك من الأعماق، ودعاءً إليك بالعافية والتسديد، وبلوغ المنى، وحسن الختام.

أيها الولد العزيز

كم أنا فخور بك، وبما سمعته عنك، وأعربت عنه رسالتك الكريمة من جميل خلق، وكثير ذكاء، وفاضل سلوك، وسداد منطق...

جعلنا الله وإياك ممن قال بالحق، وعمل بالصدق، ووفقنا جميعاً لصالح الأعمال، وكفانا جميع الأنواء، وجنّبنا المزالق، إنه قريب مجيب.