العدد 73 - الأحد 17 نوفمبر 2002م الموافق 12 رمضان 1423هـ

وحدة السلطة والسوق نقلت الصين إلى المستقبل

الحزب الشيوعي الصيني بين الليبرالية والتطرف القومي

أحمد مغربي comments [at] alwasatnews.com

خمس دمى كبيرة وملونة وضعت أمام «القصر الامبراطوري» الذي استضاف اعمال المؤتمر السادس عشر الذي عقده الحزب الشيوعي الصيني. مثلت الدمى، بأحجام متفاوتة، كل من المفكر القومي واول رئيس لجمهورية الصين المستقلة الحديثة صوت يان صن ورئيس جمهورية الصين ما قبل الشيوعية تشيانغ تشاي تشيك، وماوتسي تونغ الذي اوصل الشيوعيين إلى السلطة وبه يبدأ تاريخهم والمصلح الاقتصادي الذي نظر إلى التحول التدريجي للصين من الاقتصاد الاشتراكي إلى الرأسمالية دينغ هيسياوبينغ واخيرا الرئيس «المستقيل» للبلاد والحزب جيانغ زيمين.

ما الذي يجمع هؤلاء الخمسة؟ في نظرة اولى، يبدو «اجتماعهم» امرا غريبا. والحال ان التاريخ بينهم حافل بالعداء! فقد ناصب ماو الشيوعي تشيك وحزبه القومي «كوننتانغ» العداء طويلا ثم تحالفا لمواجهة المحتل الياباني. وما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى انقلب التحالف إلى عداء من جديد. ونجح ماو في طرد تشيك الامين لافكار صوت يان صن القومية، وطرده إلى جزيرة فورموزا اوتايوان التي عرفت باسم «الصين الوطنية». وفي عز الثورة الثقافية، اعتبر ماو آراء صن القومية «هرطقة».

وبعدوفاة ماو العام 1976، قاد هيسياوبينغ حملة ضارية ضد الماوية. وحوكمت زوجة ماو ضمن «عصابة الأربعة» في الصين الجديدة. ووصم بينغ الماوية بالتطرف في الاشتراكية إلى حد تدمير البلاد. والحال انه قاد البلاد نحو اصلاحات هدفت إلى تحويلها إلى الرأسمالية. وبدوره لم يخل عهد جيانغ زيمين من انتقادات لاصلاحات بينغ. فما الذي جمع خصوم التاريخ، في بقعة صغيرة من الجغرافيا، داخل «المدينة المحرمة»، المقر الاسطوري لأباطرة الصين القديمة؟

قيل في أروقة المؤتمر، ان الدمى تنسجم مع سعي الحزب إلى المصالحة الفعلية مع الرأسمالية الصينية و الاخيرة تندرج في صور تشيك وصن وبينغ فهي تعكس استمرار احتكار الحزب الشيوعي للسلطة، كما تشير دمى ماو وزيمين. وايضا تشير إلى احتمال المصالحة بين اعداء أمس.

هل يمكن النظر إلى هذا «التجمع» باعتباره حاملا لشيء من الرمزية، سواء كانت مقصودة ام لا؟ والحال ان المشترك بينهم ربما كان... القومية الصينية. تشيك وصن ينتميان إلى الفكر القومي الصيني. وماو أحدث هزة قوية في الفكر الشيوعي «التقليدي» بسبب اصراره المستمر على ادماج النظرية القومية في صلب الماركسية.

لم يكن خصمه دينغ أقل «وطنية». وغالبا ما أخذت الدول الغربية عليه، وهو الداعية الكبير إلى صين ذات اقتصاد حر ومنفتح، تصلُّبُه في مسألة تايوان أو في موضوع استقلال التيبيت. اما ميول زيمين القومية، فهي اكثر من معلنة، اذ اصر على ضم «هونغ كونغ» لدى انتهاء فترة الانتداب البريطاني مستخدما كل وسائل الضغط، عدا الحرب. وكاد ان يوصل الامور إلى الحرب حين اجرت تايوان استفتاء على استقلالها. واصر على الحصول على موقف اميركي، من الادارة الحالية والسابقة ايضا عن ان الـ «صين واحدة».

إلى اي مدى يمكن قراءة التغييرات الاخيرة الحاصلة في الحزب الشيوعي الصيني، بانها تدفع البلاد نحو اقتصاد اكثر انفتاحا، وسياسة صينية اكثر قومية، وخصوصا في مسألة تايوان؟

يمكن العثور على شواهد قوية عن «خط الدمى»، اذا جازت العبارة، اي المزيج الصيني بين القومية والانفتاح الاقتصادي في عصر العولمة. في عددها لفصل الربيع من العام الماضي، نشرت مجلة «وورلد افيرز» المعروفة، مقالا طويلا للكاتب الصيني غوايانجكيوزيو يؤكد فيه ان انفتاح الصين على الغرب رافقه صعود المشاعر القومية عن هوية صينية ومسألة تايوان، كذلك مسحة اصولية في مقاومة القيم الغربية. وقدم زيو رصدا دقيقا لتلك الأمور. وسواء في وسائل الاعلام الرسمية، أم في الوسائل «غير الرسمية والمقموعة»، زاد الانفتاح الاقتصادي في اعتزاز الصينيين بهويتهم، وهو امريترافق دوما مع المطالبة بضم «تايوان»، وكذلك صاروا اكثر انتقادا للقيم الغربية، التي وجدوا انها تجعل حياتهم اقل استقرارا وامنا. واورد مقابلات مع شخصيات معارضة، لجأت إلى اميركا واوروبا، ومال اكثرهم إلى انتقاد تزويد الغرب لتايوان بالاسلحة المتطورة، والشروط القاسية للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، والترويج لاستقلال التيبيت، والتدخل المستمر في شئون الصين الداخلية. واستعاد بعضهم مقولات المنظرين الوطنيين الاول من القرن التاسع عشر، مثل صوت يات صن. والحال، ان تاريخ صين ما قبل ماوتسي تونغ حافل بالمرارة حيال الدول الغربية الكبرى. ولعل «حرب الأفيون» هي اشهر الامثلة تاريخيا على ذلك.

ومازالت آخر تظاهرات هذه المشاعر طرية في الذاكرة. وعقب قصف الحلف الأطلسي (الناتو) للسفارة الصينية في بلغراد، اندفع مئات المتظاهرين إلى شوارع المدن الصينية الكبرى للاحتجاج. واصطدم هؤلاء مع قوات البوليس. ورفعوا شعار «حماية السيادة وحماية السلام». وطوق 170 الف متظاهر القنصيلة الاميركية في «تشينغدو». واعتصموا قبالتها.

واصدر البلدان تحذيرا لمواطنيها بتوخي الحذر. وأجمع المراقبون على ان تظاهرات الاحتجاج تلك ضد اميركا وبريطانيا هي الاكبر منذ الثورة الثقافية في الستينات.

وتقصى الكاتب زيوجذور هذه المشاعر، ملاحظا ان فترة دينغ الاصلاحية رافقتها عودة إلى افكار المفكر القومي صوت يان صن. ورأى ان هذا الامر صار خطا ثابتا في الحزب منذ ذلك الوقت. والحال ان الرأسمالية الصينية لا تضع الحرب على تايوان في مقدم جدول الاعمال، الا ان غالبيتها، بحسب المفكر زيو، ترى في اعادتها إلى الوطن الأم امرا «طبيعيا ومفيدا». ويركز بعض هؤلاء على ان التحول الرأسمالي في الصين الكبرى، يقربها من الصين الصغرى. ويرى كثيرون ان اندماج البلدين يعطي بلدا اكثر قدرة على المنافسة في السوق العالمية، وخصوصا مع الامكانات المتقدمة في الصناعة التقليدية والالكترونية في بلد المليار نسمة.

جيل أكثر فردية

يعتبر وين جياباو، نائب هاو، نموذجا من التغيير. هواداري وتكنوقراطي. خدم ثلاثة رؤساء للحزب. (هوياوبانغ، زاهاو زيانغ، جيانغ زيمين) و تصفه صحف هونغ كونغ بأنه «مدير كفء، يركز على النتائج العملية» اثناء اعتصام ساحة «تيانانمين» في العام 1989 زار الطلاب برفقة زهاوزيانغ، رئيس الحزب آنذاك. بعد ان قمع لي بينغ الانتفاضة، طرد زهاو زيانغ من رئاسة الحزب، لكنه استطاع الانحناء امام العاصمة. واستعاد قوته تدريجيا. وحافظ على صوته بوصفه معتدلا. واظهر استطلاع عبر الانترنت بوصفه «عضو المكتب السياسي الاكثر شعبية في البلاد». ولكن من اي هوى ينطق؟ وما هو التغيير العميق الذي يجمع الكل على ان الصين تعيشه راهنا؟

ربما تصلح الروائية ويي هيو نموذجا عن هذا الجيل في تطلعاته وقلقه. فهي كتبت رواية «طفلة شنغهاي» التي كانت الاكثر مبيعا قبل منعها من قبل الحزب في العام الماضي. وعلى عكس قيم الكونفوشية والماوية، فانها تصف تفلتا في الميول الجنسية للمرأة والرجل في المدينة التي تعتبر «ايقونة» الصين الجديدة، المتطلعة نحو الغرب باقتصادياته ومفاهيمه.

وتصف الكاتبة روايتها بأنها رواية عن المرأة الصينية الجديدة التي «تتغير وتنفتح على الحضارة الغربية». والحال انها رواية عن التهتك الجنسي في مدينة فوارة ومخادعة في الوقت نفسه. «في مدينة شنغهاي، يبدو الكل متحمسا... كل شيء يعطي احساسا بالفوران، وان كل شيء ممكن وقابل للانجاز». ولا يغيب عن بال الكاتبة ان ترفع صوتها في رنة محذرة «هذه حال مخادعة. فليس كل الاماني قابل للتحقق. ثمة مشكلة».

فالكاتبة تنطق عن ضياع جيل كامل من الشباب الصيني. انه اول جيل من عائلة «الابن الواحد» يصل إلى العشرين. وفي الماضي، كان حلم الطفولة يتمثل في ساعة ودراجة هوائية. واما الان، فان رنات الهاتف المحمول تطرح اختيارات لا تحصى.

التكلس الحزبي

من الصعب عدم ملاحظة مدى الهوة بين اجيال الصين الشابة والحزب الموروث من تاريخ الشيوعية واساليبها المتجبرة في الامساك بالسلطة. وفي كل خمس سنوات تمارس القيادة سلطتها. وتعقد المؤتمر امام اكثر من 200 مندوب يأتون من اماكن عدة ليقضوا اسبوعا ببكين. لا شيء يشبه ذلك في اي بلد كبير في العالم من حيث تركز كل السلطات في مكان واحد.

المؤتمر السادس عشر هو مؤتمر الجيل الرابع من الشيوعيين منذ 1949.

وساد فيه حديث عن الفساد باعتباره موضوعا رئيسيا. لم يكن ذلك سوى صدى باهت لما يقوله الناس، سرا وجهارا عن سلطات الحكم الشيوعي. وعلى سبيل المثال، يعرض تلفزيون شنغاي مسلسلا بعنوان «خلف الحياة الراقية». وتركز الترسيمة الرئيسية فيه على العلاقة بين الموسرين واصحاب السلطة، مثل مسئولي الجمارك. وحتى الصحافة الصينية الرسمية تحفل بالحديث عن موضوع الفساد. وثمة حديث عام عن الفساد في قطاع التعليم. مثل اختيار الطلاب للدخول إلى المدارس العليا، والذي يفترض انه يتم بناء للمؤهلات بينما تحول عمليا إلى مصدر اساسي لثروة بعض المديرين.

هل تصح التوقعات اذا؟ هل ان «الخيط الرفيع» الذي يصل بين التكلس والعالم الحر، والمزيد من الوعود بصين أقوى وبين المراهنة على المشاعر القومية، والوعود الزاهية التي تحملها امكانية ضم تايوان تعبر بالصين إلى مستقبل افضل: الدولة الاولى في العالم؟

العدد 73 - الأحد 17 نوفمبر 2002م الموافق 12 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً