لا يمكن وصف ما حدث في «إسرائيل» من صدمة جراء الكشف عن اختراق قوى وفعاليات «حزب الله» لأكبر قوة عسكرية وإرهابية وأمنية في المنطقة.
كما لا يمكن تصور كيف استطاع المقدم «عمر الهيب» تقديم خدماته إلى حزب الله، بل ان الغريب هو حال الصدمة والذهول في «إسرائيل» من النجاح باختراق مؤسسة «الجيش الإسرائيلي». واعتبار قصة الهيب هي أكبر قضية تجسس في تاريخ الدولة العبرية الصهيونية ليس دقيقا، فقد سبق ان زرع المصريون والسوريون وغيرهم من السوفيات وأوروبا الشرقية، جواسيس داخل الجيش الإسرائيلي، وفي كل مكان حتى داخل رئاسة الوزراء، ووزير الدفاع وفي مفاعل ديمونة، والمصانع الكيماوية والجرثومية، وفي داخل المخابرات الإسرائيلية ومع ذلك فإنه يسجل لصالح حزب الله، مهنيته الاستخبارية العالية، من خلال هذا الاختراق الذي يعتبر هزيمة أخرى للجيش الإسرائيلي، بعد هزيمته وهروبه من جنوب لبنان.
ويرى الباحث الأردني في الشئون الإسرائيلية العبرية غازي السعدي: ان الجهات الإسرائيلية المختصة أصبحت محرجة ومرتبكة ما بين التصعيد في تقديم الاتهامات ضد البدو من جهة، وخشيتها من حصول شرخ بينها وبين البدو من الجهة الأخرى. فمنذ إقامة «إسرائيل»، عملت الحكومات المتتالية على تصنيف المواطنين العرب إلى أربع فئات هي: الدروز، البدو، المسيحيون والمسلمون، وذلك ضمن سياسة فرق تسد. ومع ان الخدمة العسكرية التي فرضت الزاميا على الدروز فقط، فإنها غير ملزمة للبدو والمسيحيين والمسلمين، ومع ذلك فإن هناك بضع مئات من البدو يخدمون في الجيش الإسرائيلي، متطوعين من دون ان تلزمهم القوانين الإسرائيلية بذلك، ويعملون على الغالب قصاصي اثر، وهي مهنة يمارسها البدو بالوراثة، كما ان هناك بضع عشرات من المتطوعين المسلمين والمسيحيين في صفوف الجيش الإسرائيلي، وعلى الغالب ان ذلك يعود إلى أسباب اقتصادية، وخصوصا بعد مصادرة معظم أراضي البدو، وتحول شبابهم إلى عاطلين عن العمل، ضمن سياسة مبرمجة لحملهم على الانخراط في الجيش، بشروط مغرية، إذ يدفعون بهم إلى الخطوط الأمامية، ليتعرضوا للموت بدلا من الجنود اليهود. وقد قتل الكثيرون منهم في الاشتباكات على الحدود اللبنانية والمصرية ومع المقاومة الفلسطينية. والتبرير الاقتصادي لخدمتهم هذه ليس مقنعا، فمصادرة أراضيهم، وتعرضهم وتعرض قراهم لأوضاع اقتصادية صعبة، يجب ان تدفع بهم إلى المزيد من النضال ضد السياسة الإسرائيلية العنصرية، والحقيقة ان هؤلاء الذين يخدمون في الجيش هم نسبة ضئيلة، لا يجوز تعميمها بوصفها ظاهرة تطول البدو جميعا، فإن من بينهم مناضلين ووطنيين حقيقيين يقفون مع «إسرائيل» واسطورتها الأمنية، والدليل على ذلك، أن هؤلاء الجنود عند عودتهم إلى قراهم في الإجازات لا يجرأون على دخولها في زيهم العسكري، بل يستبدلونها بالزي المدني، وهذا يعني أنهم منبوذون داخل قراهم ومجتمعهم، ومع ذلك فإن من يخدم الجيش الإسرائيلي لأسباب اقتصادية سيقوم بتقديم خدماته إلى جهات أخرى للأسباب نفسها، وهذا ما حدث للمقدم عمر وزملائه الذين اعتقلوا معه بتهمة التجسس لصالح حزب الله، وهم ليسوا الأوائل، وليسوا آخر الذين يقدمون مثل هذه الخدمات لصالح حزب الله، بل سبقهم الكثيرون، حتى من بين اليهود الذين يبحثون عن المال، في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في «إسرائيل»، والفساد المستشري في مراكز القوى السياسية، الأمر الذي يشجع الكثيرين على عرض خدماتهم للجهات العربية المعنية، مقابل المال والذهب أو المخدرات، وأحيانا مقابل عمليات تهريب للجنود خارج «إسرائيل».
من الطبيعي توجيه تهمة الخيانة العظمى إلى المقدم «عمر الهيب» أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية الخاصة في تل أبيب واتهامه بالتجسس الخطير، والاتصال بعميل أجنبي والمتاجرة بالمخدرات، وتعريض دولة «إسرائيل» للخطر عن قصد مساعدة «العدو»، فهذه المحاكمة التي ستجرى خلف أبواب مغلقة، وقيام النيابة العسكرية بإغراء أحد المعتقلين بوصفه شاهد ملك في هذه القضية ضد المقدم عمر وزملائه، يدل على انه ليست لدى النيابة اثباتات وانها لا تملك اعترافات منه للتهم الموجهة ضده، وإلا لماذا لا تكون المحاكمة علنية.
ولا يعتقد أي منصف ان حقيقة عملية التجسس أمر من صالح «إسرائيل» نفيه... بينما أسرار ذلك عند حزب الله وكوادره التي ربما تكشف عن ذلك فيما بعد. وطبيعي القول بحسنات الكشف عن هذه القضية، لهذا أصبحت الجهات العسكرية الإسرائيلية، تعزز عدم ثقتها بالبدو وأخذت تشكك في كل واحد منهم، وتقوم بمتابعة ملفاتهم العسكرية ويخضعون للمراقبة الصارمة. وبرأيي فإن الاستغراب والصدمة الإسرائيلية هي المستغربة، إذ البدو وحتى الدروز يعاملون كاليهود في التضحيات وتقديم دمائهم دفاعا عن «إسرائيل»، ويعاملون كبقية المواطنين العرب الذي يتعرضون للتمييز العنصري على جميع الصعد بالنسبة إلى الحقوق التي يتمتع بها اليهود، ولذلك فإن القلق العميق في الجيش الإسرائيلي نتيجة اكتشاف عملية التجسس هذه هو المستغرب.
إن ظروف المنطقة دقيقة وحساسة... وللجيش الإسرائيلي فيها دور لم يتضح اليوم، إلا ان الخوف من عمليات اجتياح وجاسوسية واختراق لحدود دول مثل لبنان والأردن وسورية خلال الضربة المحتملة على العراق يجعلنا نحذر من جاسوسية «إسرائيل» العكسية... فهل من يقرع جدار الخزان.
الاردن - حسين دعسة
العدد 73 - الأحد 17 نوفمبر 2002م الموافق 12 رمضان 1423هـ