وُفّق الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي أيما توفيق في عنوان كتابه «خمس سنوات في بيت من زجاج»، والذي يروي فيه مذكراته عن فترة توليه الأمانة العامة للمنظمة الدولية خلال الفترة 1992 - 1996 كاشفاً عن جوانب من صراعات الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة للهيمنة على هذه المنظمة الاُممية، فإذا ما تأملنا في الدلالة المجازية للعنوان فهي بالفعل في هشاشتها أشبه ببيت من زجاج، لا تملك هي ووكالاتها المتخصصة سلطة تمرير قراراتها المهمة إلى حيز التنفيذ بل حتى إخراجها للنور، سواء المتعلق منها بحفظ وصيانة السلم العالمي ونزع فتيل التوتر وإخماد الحروب الأهلية والإقليمية التي تشهدها مناطق عديدة من العالم أم المتعلق منها بتنمية البلدان ورفاهية شعوبها وحقوق الإنسان فيها، فهي بيت من زجاج ينظر أمينها العام من أعلى شرفة فيها بمكتبه في الطابق 39 إلى ما يموجُ على الكرة الأرضية من صراعات ونزاعات أهلية وإقليمية ودولية وكوارث سياسية وبيئية تأخذ بخناق شعوب عديدة من العالم لا حول لها ولا قوة أزاؤها، لكنه زجاج أشبه بالزجاج المغطى بـ «الرايبون» فهو مُعتم للناظر إليها من الخارج لا يكاد يرى شيئاً مما يدور بداخلها لكنه شفّاف كالبلور لمن هو في مرتبة أمينها العام ليشاهد من داخلها عبره كل ما يجري في العالم خارجها فضلاً عن داخلها من فساد وتسلّط لمصادرة إرادة قراراتها الموضوعية وحجب تقاريرها أو تحريفها وتقويض سلطتها الدولية المفترضة وبتواطؤ وقبول منه إذا ما شاء ذلك.
ولعل فضيحة طلب الأمين العام للأمم المتحدة الجديد أنطونيو غوتيريس بخصوص قضية الأمين التنفيذي للأسكوا ريما خلف، فيما يخص سحب تقرير يوجه إدانة صريحة لإسرائيل لإقامتها نظاماً للفصل العنصري يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى استجابةً منه لضغوط إسرائيلية - أميركية، ما دفعها للاستقالة، لهو خير برهان على ما نذهب إليه كحلقة من سلسلة طويلة مزمنة من هذه المهازل التي تشهدها المنظمة الدولية منذ ولادتها، وهكذا لم يمضِ سوى يومين فقط على تفجر هذه الفضيحة الأخيرة وإذا بفضيحة جديدة تتفجر متمثلةً في صدور تقرير قبل بضعة أيام عن المنظمة ذاتها يضع إسرائيل على المرتبة الحادية عشرة في قائمة الدول التي شعوبها أكثر سعادةً في العالم متفوقةً بذلك على دول مثل النمسا (المركز 13) وألمانيا (المركز 16) وسنغافورة (المركز 26)، وإن كانت فضيحة سحب تقرير الأسكوا إرضاء لإسرائيل وأميركا تُذكرنا بفضيحة إقدام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1991 على إلغاء القرار الصادر عنها باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز العنصري تحت ضغوط الولايات المتحدة، وذلك غداة انهيار القوة العظمى الثانية، الاتحاد السوفياتي وتفرد الأولى على رأس نظام دولي جديد أحادي القطبية آخذ في التشكل.
أكثر من ذلك كيف يُمكننا فهم أن يصدر عن الأمم المتحدة تقرير عن مؤشر السعادة في وقت لم يمض على صدور مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية سوى أقل من ثلاثة شهور (يناير/ كانون الثاني الماضي)، وهو التقرير الذي يؤكد تفاقم الفساد في الدول العربية، وإن 90 في المئة من هذه الدول - حسب موقع قناة الجزيرة - لم تحصل إلا على أقل من 50 نقطة، ومع ذلك يُدرج عدد من هذه الدول نفسها ضمن الدول الخمسين الأولى لمؤشر السعادة العالمي؟ وقس على ذلك لو رصدت أوضاع هذه الدول العربية في تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نفسها فضلاً عن تقارير المنظمات الدولية الأخرى سواء المختصة منها بقضايا حقوق الإنسان نفسها أم بحرية الصحافة أم بالمرأة أم بمحاربة الاتجار بالبشر من النساء والعمال والأطفال، دع عنك ارتفاع نسب البطالة، وكذلك تقارير ودراسات دولية لا يرقى لها الشك عن نسب السكان الذين هم تحت خط الفقر وتدني مستوى المعيشة والأجور وارتفاع أسعار السلع الأساسية لوجدت الغالبية العظمى من شعوبها تعيش في جحيم من الشقاء المزمن لا النعيم المزعوم الذي تُغبط عليه في تقارير المنظمة الأممية الفاقدة لأي مصداقية حتى بالحدود الدُنيا المُفترضة، ثم كيف تنعم الشعوب بسعادة في ظل برامج التقشف العجاف التي تفرضها حكوماتها عليها وتعلنها صراحةً بلا مواربة؟
والحال فإن المرء ليحتار حقاً في تصديق أي من التقارير المتناقضة المتضاربة الصادرة عن منظمة دولية واحدة، فهل يصدق تقاريرها التي تُباع من تحت الطاولة لدول تتمتع بالعضوية لتزويق صورتها برسم متخيلات رقمية عن البحبوحة والرخاء التي تعم شعوبها؟ أم يصدق تقاريرها التي تتوخى حداً أدنى من الموضوعية المتجردة عن حالات الشقاء الغارقة فيها هذه الشعوب المغلوب على أمرها في مختلف مناحي الحياة؟
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5313 - الجمعة 24 مارس 2017م الموافق 25 جمادى الآخرة 1438هـ
كانت قضية فلسطين احد القضايا التي جعلت مصداقية الأمم المتحدة وباقي المنظمات على المحكّ لكن بعد قضيتنا اصبحت الأمور مكشوفة ولا قيمة لهذه المنظمات وتقاريرها وإحصاءاتها المسيّسة