لبنان... وينتفض القلب.
إذن.. نحن متجهون إلى لبنان... بلد المقاومة والتحرير... بلد العزة والكرامة... الذي عاد يعلّمنا معنى كيف تموت مرفوع الرأس، لتعيش مرفوع الهامة.
ذهبت إلى لبنان ومخيلتي مليئة بصور الدمار وأيام الحرب الأهلية التي طالما قرأت عنها وتابعتها مذ كنت فتيا. كنت أتخيّل نفسي سأعبر شوارع تحيط بها المباني المهدمة، فعدت بصور لا أزهى ولا أحلى. ذهبت إلى لبنان وكلي شوق للقياه، فعدت منه وأنا أكثر شوقا. كنت مبهورا ببلد الحرية فعدت أكثر انبهارا، لقد سحرني لبنان.
وصلنا صبيحة السبت ضمن مجموعة سياحية من العوائل الخليجية، اخترق بنا الباص الحدود السورية اللبنانية. تشعر أنك دخلت بلدا آخر فعلا. اتجهنا شمالا نحو بعلبك... ومررنا بقرى البقاع، حيث المزارع تمتد على يمينك وشمالك في وادٍ منبسط لا يزيد اتساعه على كيلومتر واحد، تقوم بين ذراعيه هذه الزراعة العامرة، حيث تعمل المرأة إلى جانب الرجل في الحرث والحصاد. صورة كانت قائمة في البحرين قبل عقود قليلة، أطاح بها التطور العمراني والاجتماعي، ونزوح المرأة للعمل في قطاعات حديثة. ربما لو حدّث الأجداد أحفادهم عنها اليوم لما صدّقوها.
كان القصد قلعة بعلبك الشهيرة، حيث كانت تغني فيروز فوق هضبتها فيحتشد الألوف. مازالت المنصة قائمة، والكراسي في اماكنها. دخلنا القلعة وجسنا خلالها، تبهرك عظمتها، تقف متأملا هذه الصروح الشامخة... تتساءل كيف ارتفعت هذه الأعمدة الضخمة من دون الرافعات الحديثة. ما الزنود التي رفعتها وكيف قويت على رفعها في الهواء.
تنزل منها إلى المتحف القائم في الأسفل، فتحس بالفرق. أين هذه الآثار التي صُفّت كالتوابيت تحت الأضواء الذابلة بحسب النسق الحديث.. من تلك التي تنتصب في الهواء الطلق تصارع الشمس والرياح والأنواء... وتناطح القرون.
بين الجبلين
بعد القلعة عليك أن تتسلق جبال لبنان الشرقية حتى تهبط إلى السفح من الجانب الآخر، فتصبح بين سلسلتي جبال لبنان المتوازيتين: الشرقية والغربية، تمشي بينهما فترى نفسك في سهل منبسط. وحتى تصل إلى بيروت لابد أن تتسلق مرة أخرى جبال لبنان الغربية وتهبط من الطرف الآخر، وتمر بعدد من المناطق والبلدات التي كان يكثر ترددها في نشرات الأخبار أيام الحرب الأهلية. وأخيرا تحط أمتعتك في الفندق قبيل الغروب، وغسلنا أقدامنا لأول مرة في مياه البحر المتوسط، نحن الذين شبعنا وما شبعنا من شطآن الخليج. كان اليوم يوم سبت ولبنان في عطلة، وتلك كانت أول مفاجأة. مع ذلك لم أتمالك نفسي، فتوجهت مع زوجتي إلى شارع الحمراء. لم تكن المسافة تزيد على عشر دقائق. كنت أتخيل الأنقاض والدمار، ولكني وجدت مدينة جميلة عامرة. لا أثر للدمار إلا على بعض منازلها القديمة. وتلك كانت المفاجأة الثانية.
عند العودة من بيروت ركبنا مع سائق أجرة، عرّفنا على نفسه أنه من الضاحية الجنوبية، سألنا عن البحرين وما يجري فيها وآرائنا، وسألته أكثر عن لبنان، حدّثنا عن الرؤساء الثلاثة، ما لهم وما عليهم، وأكثر الحديث عن رئيس الوزراء واستثماراته وممتلكاته ومشاريعه، فيما يتداوله الناس دائما من أخبار عن الحكام. أفي كل مكان لا يرضى الناس عن حكامهم حتى هنا في لبنان بلد الحريات والديمقراطية القديمة؟
نقلت له انطباعي عن مدى ما كنت أتخيله من دمار، وسألته عن نسبته فأجاب: إنه لا يزيد على 10 في المئة. وأضاف: إذا ذهبت إلى الجنوب ستلاحظ أن للبناني بيتا وسيارة وحديقة صغيرة يهتم بها حتى لو كان فقيرا. وهو ما تحققت من صحته بعد ذهابي فعلا. ظللت أتحدث إليه لمدة ثلاث ساعات ونحن في سيارته بعد أن أوقف المحرك على الكورنيش والهواء العذب يهدي لأجفانك النعاس اللذيذ، لولا الكلام في السياسة التي ما دخلت في شيء حتى أفسدته.
بعد انتهاء اللقاء ودّعنا بحرارة، رفض أن يأخذ الأجرة على رغم إصرارنا، ودعانا إلى زيارته في بيته فاعتذرنا لارتباطنا بالمجموعة. ليتك تقرأ يا (حسين بركات) ما كتبته اليوم.. ما كتبه رئيس تحرير مجلة «العربي» السابق المرحوم أحمد زكي عندما زار لبنان قبل الحرب المجنونة، عن تلك الروح الأصيلة التي تجدها في «الجبل».. رأيتها بعده بـ 28 عاما في بيروت. ألف تحية للبنان وأهل لبنان.
الطعام اللبناني
أبي أيضا زار لبنان قبل الحرب الأهلية بأشهر معدودة ومازال يكرر انه بلد أوروبي... وكان من انطباعاته أنك تنتهي من الأكل وأنت تحس بالرغبة فيه، ويفسر ذلك بالجو البديع، خصوصا إذا تذكر جوّنا في البحرين. ولكن قد يعود السبب إلى ما يقدّمه إليك المطبخ اللبناني من مقبلات تفتح أبواب الشهية، وما عليك إلا أن تختار ممّا لذ وطاب.
كل طبقٍ له طعمه المغري، وفي مقدمة المائدة يأتيك «الحمّص» ركضا
كنت أقول لمرافقي: «لقد أكلت في لبنان من الحمّص خلال ثلاثة أيام أكثر مما أكلته منه في حياتي كلها!».
صبرا وشاتيلا
وأخيرا توجهنا إلى الجنوب. قطعت بنا الحافلة من الروشة في منتصف بيروت إلى الضاحية، ووقف الدليل السياحي ليشير إلى هذه المنطقة: إنها المنطقة التي شهدت مجزرة صبرا وشاتيلا. إذن ها هنا ذبح اخواننا الفلسطينيون؟ ها هنا قتلت النساء والأطفال والشيوخ؟ قف قليلا ، سر الهوينى، فها هنا سالت الدماء. هنا أصدق ما ينطبق عليه قول أبي العلاء المعري في قصيدته النائحة:
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
ماذا عساه سيقول لو سمع بالمجزرة أو شقت له حجب الغيب ليرى الأضاحي المجزرين في هذا الشارع الأبكم؟
إلى أرض المقاومة
سارت الحافلة إلى الجنوب في خطٍ موازٍ للبحر. هنا وجدت ما كنت أتخيّله صحيحا. هنا لم تخطئ توقعاتي، وما تاهت لغتي. كان الطريق مغلقا بالمصادفة بسبب الحفريات، ولكن المجموعة أصرت على الوصول إلى آخر نقطة يبلغها الزائرون: «معتقل الخيام»، فلابد من الخيام ولو طال السفر!
وفي الطريق توقفت الحافلة أمام إحدى البوابات، وما أكثرها في الزمن الغابر حين كان لبنان - الذي هان على نفسه - مسرحا لأحذية الغزاة. نزلنا لنرى، على الجانب اللبناني كان مقاتلو حزب الله بلباسهم المدني المتواضع، يجوبون الشارع في راحة بالٍ واطمئنان، بينما على الجانب الآخر من التلة يقبع بناء اسمنتي كالبثرة القبيحة في الوجه الجميل، يكاد يتوارى خلف أكياس الرمل والخيش والأعشاب، وراءها خوذات، تحت الخوذات رؤوس مرعوبة وعيون تدور في محاجرها، وفوهات البنادق تطل من بين القضبان. دائما كانوا كذلك: «لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر»... ولكن الويل لمن يستأسدون عليه، ويعينهم على نفسه بضعفه وتفرقه وجبنه... والانبطاح.
وأخيرا... وصلنا المعتقل. تحوّل إلى متحف يحج إليه السائحون، ففي تلك الظهيرة كانت هناك عدة باصات جاءت تنظر. دخلناه وشاهدنا بأعيننا آثار حضارة «اسرائيل». جاءوا إلى الشرق ليعلموه الديمقراطية وأبجديات الحضارة، وهذه آثارهم. جاءوا وهم يحملون إلى شعوبه البربرية المتخلفة مشعل الخلاص! وهذه آثار حضارتهم التي وقف الغرب بكل هيلمانه وصولجانه يحميها ويدعمها ويثبّت أقدامها في الأرض المغتصبة. لا أدري من هم البرابرة. الغاصب المحتل أم الذي تمسّك بأرضه وحقه بالأسنان؟
دخلنا المعتقل، رحّب بنا المرشد السياحي، وأخذ يتلو علينا تراتيل الزمن المر ويعزف مزامير العذاب ويسرد آيات البلاء. لغتك وحدي أفهمها. أبي عرف الزفرات نفسها. وأمي ابيضت عيناها من الحزن. فعلى من تتلو أحزانك يا قسّام؟
تركت الجمع، فهذه المزامير محفورة في النخاع كالسكاكين المعقوفة. هرعت كأني على موعد مع الجراح. دخلت الدهاليز. مشيت الهوينى، ها هنا كان الرفاق. قرأت كتاباتهم، عرفت بعض أسمائهم. وددت لو أشاهدهم، أحتضنهم، شممت ما ظل عالقا بالجو من أطيافهم. عدت لآخذ طفلتي التي لم تتجاوز الأربعة أعوام. أريدها أن تقرأ التاريخ هنا. حملتها على صدري، أسرعت بها لكيلا يلحقوا بي، كنت هاربا من الجمع. دخلت الدهليز المظلم الموحش الكئيب، الريح تعصف فيه بأبواقها وتنثر فيه الغبار. وقفت بها أمام إحدى الزنازين. هنا كان الأحياء يُعذّبون كل يوم، ويُقتلون كل يوم، ويُصلبون كل يوم. من يفهم عذابات سجين قضى العمر في القبر؟ من يدرك معنى أن تبيت في قبو في ليلة قيظ يعز عليك حتى الهواء؟ أردت أن أكلّمها، احتبست الكلمات في حلقي. أرادت أن تسأل: أين أنا، لماذا جئت بي إلى هنا؟ بالعين كلمتني، احتضنتها، أردت أن أداري الهمّ الذي اجتاحني، نهر الأحزان القدسية الذي جرفني، لم أتمالك نفسي أمام ابنتي فبكيت. ما أصعب أن يبكي الرجال لذكرى عذابات الرجال. أردت أن أكفكف الدمع. حاصرتني بنظراتها المدهوشة، أرادت أن تسأل: بابا ما يبكيك؟ كيف لك أن تفهمي يا صغيرتي معنى إسرائيل وغير إسرائيل. ما يدريك معنى السجن. من بعيد سمعت المرشد يسرد حكايات الزمن الغابر، وسمعت صوت عجوز يقاطعه: حتى آنية الطعام التي تقدم إلى السجناء في كل مكان كتب عليها: صنع في أميركا. حتى الشراشف والمناشف والقيود والأصفاد.
في طريق العودة
في طريق العودة مررنا بالجولان المحتل، والباص متجه نحو الحدود السورية. متى تتحرر هذه الأرض كما تحررت أختها الجنوبية؟ متى تبرز سواعد الفتية الذين يستخفون بالموت كما برزت هناك لتقوم بالمهمة المستحيلة بعد طول احتلال؟ والباص يقطع الأرض باتجاه السيدة، فمنها انطلقنا وإليها نعود
العدد 73 - الأحد 17 نوفمبر 2002م الموافق 12 رمضان 1423هـ