في زمن الظلمات والانكسارات المدمرة، في حالة الترهل والانحطاط والانحلال التي أصابت الأخلاق والقيم بمقتلٍ عند بعضهم، تتألق الإنسانة ريما خلف الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) في إبراء ذمتها بتقديم شهادتها للتاريخ بعد أن أصاب التلوث من أصاب في مجتمعاتنا العربية.
شهادة ريما زلزلت الكيان الصهيوني، وهزت الغطرسة الأميركية، ووضعت النظام العربي بأكمله أمام أسئلة محرجة، ومطالبات شعبية إزاء القضية الفلسطينية، كما منحت من يشبهونها في عالمنا العربي القوة وشيئاً من الدافعية وقوة الصبر والإصرار على تكسير المعادلة وتغيير الواقع. عن أي معادلة نتحدث؟
بالطبع عن معادلة أن للظلم نهاية، وأن الأخلاق والقيم والمبادئ تعني ما تعنيه من قول كلمة الحق في حضرة زمن جائر ومستبد. لقد كسرت قاعدة أن «إسرائيل» قوية لا تقهر ولا تمس، أو أنها صديقة، وأننا العرب ضعفاء لا حول لنا ولا قوة. كانت شهادتها بمثابة صفعة قوية مدوية لسياسة التطبيع مع «إسرائيل».
قول الحق إبراء للذمة
قيل الكثير عن شجاعتها وتميزها واحترامها لذاتها، وإقدامها وانسجامها مع ضميرها وأخلاقها وإنصافها وقيمها الإنسانية الكبيرة، وتضحيتها بموقعها، نعم اليوم هناك من بيننا من يبيعون ضمائرهم وتاريخهم ومواقفهم ومبادئهم لقاء فتات الموائد، لم لا؟ وهي التي تموضعت في وقفة العز والكرامة مرتين متتاليتين، مرةً حين قرّرت ألا تصمت عن قول الحق وتقدّمت بالتقرير الأممي المعد من «الأسكوا» التي تضم 18 بلداً عربياً. التقرير الذي حمل عنوان «الممارسات الإسرائيلية نحو الشعب الفلسطيني ونظام الفصل العنصري» بما تضمنه في صفحاته الـ74 وملحقيه، من اتهامات لـ»إسرائيل»، تم إثباتها بتحقيق علمي وأدلة لا ترقى إلى الشك بأنها «مذنبة بجريمة إقامة نظام فصل عنصري يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة».
أما وقفة العز والكرامة التالية التي تموضعت فيها، فكانت حين قالتها فاقعة مدوية «لا» للرضوخ والتهديدات، «لا» للابتزاز، «لا» لسحب التقرير، مَن مِن الزعماء والمسئولين العرب يمكنه تعليمنا درساً كهذا؟ إنها ريما خلف التي قدّمت استقالتها رافعة الرأس شامخة بنموذج جدير بأن يُحتذى، كتب أحدهم: «كلما كبرت الشهادة كبر مفعولها، وخلف أقدمت على أكبر عملية استشهادية سياسية في تاريخ الأمة عندما أشهرت سيف استقالتها، وفجّرت قنبلتها الإنسانية في وجه الرئيس الأميركي الجديد المتغطرس، والأمين العام الجديد للأمم المتحدة دون تردد أو خوف، بل وبالكثير من الكبرياء والكرامة وعزة النفس والانحياز إلى مقاومة الظلم الإسرائيلي الأميركي».
كعادتها «إسرائيل» وحلفاؤها، مارست ضغوطاً هائلة على الأمين العام الجديد كي تتنصّل الأمم المتحدة من التقرير، ومن ثم سحبه بحجة إنه لا يعكس مواقفه، وإنه أُعِدّ دون التشاور مع الأمانة العامة للمنظمة الدولية. لم لا تستنفر «إسرائيل» قواها وتغضب، وقد أشار التقرير القنبلة إلى أنها «قامت بتقسيم الشعب الفلسطيني إلى فئات أربع؛ فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وفلسطينيين في القدس الشرقية، وفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفلسطينيين يعيشون في الخارج كلاجئين أو منفيين. فهم يتعرضون للقمع، وتخضع كل فئة منهم إلى ترتيبات قانونية مختلفة تحرم الفلسطينيين من حقوقهم، وإلى سياسات وممارسات تتسم بالتمييز وتجعل مقاومتهم لهذا الظلم شبه مستحيلة،...» مضيفاً: «أن لا حل في الدولتين أو أي ترتيب آخر دون تفكيك نظام الفصل العنصري الاسرائيلي، مقترحاً القيام بخطوات محددة كإحالة القضية على محكمة الجنايات الدولية، ودعم حركة مقاطعة إسرائيل.. وأوصى بإعادة إحياء لجنة ومركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري اللذين توقف عملهما العام 1994 حين اعتقد العالم أنه تخلّص من الفصل العنصري بسقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا».
وعليه فليس بمستغرب إن أثار التقرير الأممي كل هذه الضجة، وانقسام الآراء والمواقف الدولية بشأنه بين مؤيد أو معارض، فهو بالنسبة للمراقبين والباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان، مرجعية بحثية استقصائية علمية معدة بحسب معايير نظام القانون الدولي في تعريفه لجريمة الأبارتهايد، بل وموثق بالأدلة والشواهد لسياسات «إسرائيل» وممارساتها نحو الشعب الفلسطيني، وها هو المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين يوجّه نداءً لصحوة وتحرك عربي- إسلامي- دولي لتبنّي تقرير «الأسكوا»، انطلاقاً من قناعته بأنه يعالج جذر القضية المتمثلة في عنصرية الكيان الصهيوني، وما يشكّله من جريمة ضد الإنسانية، مطالباً الدول العربية والإسلامية التي تمثل جزءًا من مجموعة الـ77 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالمبادرة لإصدار قرار يتبنى خلاصات التقرير، ويطلب من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري، ومن محكمة الجنايات الدولية إطلاق تحقيق في هذا المجال، كما يأمل بأن تناقشه القمة العربية المقبلة، وأن تتبناه جامعة الدول العربية في سياق تحرك دبلوماسي سياسي لفضح نظام الفصل العنصري الصهيوني.
شهادة الحق نقيض التخاذل
ثمة قوة يستمدها الإنسان المؤمن بعدالة قضية شعبه، الإنسان الثابت على المبادئ والمواقف والقيم الإنسانية، وهي على النقيض من حالة الخواء والضعف عند المتخاذل التائه بين دهاليز الكذب والافتراء وتقديم شهادات الزور علناً بلا استحياء. ريما خلف قدّمت نموذجاً ناصعاً كالبلور في ردّها على الضغوط والابتزاز؛ قالت: «قرار استقالتي ليس بصفتي كمسئولة دولية، وإنما كإنسانة سوية، تؤمن بالقيم الإنسانية السامية التي أسست عليها منظمة الأمم المتحدة، استقلت لأنني أرى من واجبي ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة، وأصر على كل استنتاجات التقرير، إن الأدلة المقدمة في التقرير قطعية، والواجب يفرض تسليط الضوء على الحقيقة، والحل الحقيقي يكمن في تطبيق القانون الدولي ومبدأ عدم التمييز، وصون حق الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق العدالة، معتبرةً إنه ليس بالأمر البسيط أن تستنتج هيئة من هيئات الأمم المتحدة أن نظاماً ما يمارس الفصل العنصري «الأبارتهايد» لايزال قائماً في القرن الحادي والعشرين.
الخلاصة، أسوأ ما في تداعيات الحدث، أنه كشف عن عجز هيئات الأمم المتحدة العليا وخضوعها للابتزاز والضغوط الإسرائيلية، ولا أدل على ذلك من إجبار «الاسكوا» على سحب تقريرها، فضلاً عمّا لفتت إليه خلف من أن الأمين العام طلب قبل شهرين سحب تقريرين، ليس لمحتواهما، وإنما للضغوطات السياسية لدول مسئولة عن انتهاكات صارخة بحق شعوب المنطقة وحقوق الإنسان.
لاشك إنه مؤشر فاقع على تنامي دور «إسرائيل» التحكّمي بمفاصل قرارات الأمم المتحدة من جانب، ومن جانب آخر يكشف عن عجز المنظمة الدولية وخضوعها لإملاءات وابتزاز الولايات المتحدة و»إسرائيل»، وعسى أن تتعظ الأنظمة العربية والموالون لها لما ذكرته ريما خلف في سياق موقفها الشجاع: «أؤمن أن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو اللون أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يكون مقبولاً بفعل سلطان القوة، وأن قول الحق في وجه جائر ليس حقاً فحسب وإنما واجب». فتحية اعتزاز ومحبة لهذه الإنسانة النموذج في زمن التردي والانحطاط.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5308 - الأحد 19 مارس 2017م الموافق 20 جمادى الآخرة 1438هـ