العولمة بصورتها الآخذة في التشكل على وتيرة متسارعة، زادتها حوادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وتداعياتها الواقعة والمتوقعة سرعة وسعة، تكاد تكون اختزالا للعالم في ثنائية المال والتقانة، وتلزم السياسة بالبحث عن موقعها، إذن فظننا، بعد الشيوعية، خاب، لأن الرأسمالية لم تجدد نفسها على مقتضى إقامة العدالة على الحرية، بدل استخدام العلم في تغليب حرية المال والتقانة حصرا على العدل، ما يعوق نهوض الدولة الوطنية من جديد ناظما للاجتماع يحرر مجتمعات التعدد من المفاصلة والتشتت والتبعية والاستحواذ ويتيح لها المشاركة بشروط عادلة.
اذا فالعولمة الآتية، قائمة أو مقبلة، فيما يبدو، على تحويل البشر إلى:
أ- كتلة فاعلة منتجة حرة وهانئة لا تتجاوز خمس البشرية عددا.
ب- كتلة منفعلة مهمشة مقيدة لا تميز بين الحزن والفرح، إذ لا حدود بين ما يفرح وما يحزن، تتجاوز الأربعة أخماس، لا ناظم لها سوى لهفتها على إدامة عيشها وتلقف ما يسقط من فضلات دورة الانتاج العالمي، إلى أن يتلقفها المرض، فلا يبقى منها إلا العدد الضروري لإدامة الإنتاج، والذي يتناقص مطردا مع الارتقاء التقني، وإلى أن يفنى المهمشون يكون بإمكانهم أن يتسلوا (من الفضائيات) بسهولة تلغي العصب وتعطل الذهن وتعوق الابداع وانتاج المعرفة وتجديدها، بل تمسح الحاجة أو الشعور بالحاجة إلى انتاجها.
هذه الصورة السالبة، ليست في الأطراف، آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، ما يمكن أن يحسنها، مع ملاحظة المخاطر المحيطة بتجربة اليابان وآسيان، التي تستوعب العولمة وتتجاوز طموحا إلى تعديل مساراتها بتأثير من ثقافة مكونة وذاكرة موصولة. إلا أن تستعيد الدولة الوطنية واجتماعها حيويتهما ودورهما، في إعادة تشكيل النواظم الجامعة، مقدمة لتحقيق المشاركة وتصحيح الاتجاه. وهنا يمكن لمفاهيم ذات مضامين قيمية عالية، أن تستعيد موقعها المهدد بالشطب، فالعولمة إذا لم تتأنسن ستجعل معنى كمعنى الأرض، فارغا من أي إيحاء، فلا يجمع، لأن دورها كوسيلة انتاج مادي واجتماعي، سوف يتضاءل ليلغى، ويترتب على ذلك أن يتبخر مفهوم السيادة، ويتبدد معنى الاستقلال ويصبح الوطن مكانا محايدا... ويمكن أن تصل إلى اجتثاث المكونات الأصلية، الدين والجماعة، وعليه فأهل الأديان السماوية معنيون، من أجل الانسان الذي هو غاية الأديان، بأن يشكلوا الإيمان على نسق مفتوح يتجاوز الانساق الجامدة، يضيف ويقبل الاضافة والحذف القائم على الحق والحرية والضرورة.
وإلا... فالقرن المقبل يمكن أن يكون قاطعا مع الدين من دون أن يعني ذلك زواله بالضرورة، إذن تكون الأديان الآتية قائمة على نقض الدين، ومن الرحمن إلى الشيطان، وخصوصا أن مرحلة ما بعد الحداثة، بتعريفها الإشكالي أو للا تعريف، وقيامها على السلب المطلق، يمكن أن تكون وعيدا بسيادة أفكار تلغي المعايير والقيم في العمل والفن والاجتماع وتعطل الحوار أو تحصره في حال سجالية أو سباقية في إطار القلة القابضة على المال والآلة ومركز البحث والاختراع والسلاح في حين تكون الكثرة قد فقدت الحلم والسؤال، ودخلت في حال كابوسية وصارت سؤالا في حدود تبقى أو لا تبقى؟
ودائما كان الدين شأن الأكثرية، شأن الخراف الضالة، الذين وصفهم المستكبرون من أعداء الرسالات والرسل بالأراذل، وهم الذين يُسلبون ويُستلبون، ويُقهرون ويُبادون، والدين في الأصل مشروع عتق وانعتاق، يبدأ من الايمان ويتجلى في الفعل الحر، يتغذى بالمحبة ويقتضي العدل ويقوم على المعرفة... والعولمة، بحسب ملامحها الأولى، في الاعلام مثلا، تقويض لهذا كله.
هذا جرس كبير وآلي جدا، ولا يمكننا قطع الحبل لإيقاف الصوت والصدى، أما سد الأذن فإنه لا يمنع الرياح من أن تعصف وتقتلع، وإغماض العين لا يمنع المشهد من أن يكتمل بكل تكويناته وخلفياته وألوانه القائمة والجارحة... والله نور السماوات والأرض. فهل نكف عن حجبه بالكسل والتواكل وإعطاء الأولوية للشكل على المضمون؟ أو نؤجل الدين إلى دورة حضارية أخرى؟ إذن تقع علينا مسئولية الضحايا الذين سوف يكثرون إلى أن يأتي الله بأمره
إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ