مع تحضير صقور الإدارة الأميركية لتوجيه ضربة عسكرية إلى العراق بذريعة ما أسمته «أسلحة الدمار الشامل العراقية»، تقوم هذه الإدارة المتحيزة بتزويد «إسرائيل» بأحدث أنواع الأسلحة الأميركية، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، وللأسف ووفقا للمنطق الأميركي، لا تجوز المقارنة بين أسلحة الدمار الشامل العراقية التي تزعم إدارة الرئيس «جورج دبليو بوش» أن العراق يمتلكها، وأسلحة الدمار الشامل المتعددة الأنواع والأغراض التي تملكها «إسرائيل»، وتمنع عنها المنظمات الدولية التي تعنى بالرقابة عليها، ولاسيما النووية منها، فردا على أسئلة صحافيين عن الازدواجية في السياسة الأميركية تجاه موضوع أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، والفرق بين أسلحة العراق المزعومة وبين الأسلحة النووية الإسرائيلية، أجاب مدير إدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية «ريتشارد هاس»، أن الموضوع مختلف كليا، على حد زعمه.
إن العراق، برأيه، مؤهل لاستخدام أسلحة الدمار الشامل التي بحوزته، فيما «إسرائيل» لن تستخدم السلاح النووي، ليبدو الأمر وكأن الدولة العبرية سعت إلى الاستحواذ على السلاح النووي وسواه من أسلحة الدمار الشامل للتباهي والعرض وليس لاستخدامه في الأوقات السانحة ضد الدول العربية، كما فعلت في عدوانها الغاشم العام 1967 ضد الجيش العربي المصري وفي غزوها للبنان في العام 1982 ضد المقاومة اللبنانية والجيش العربي السوري ومحيط بيروت.
التظاهر الساذج في حديث «ريتشارد هاس» عن الفارق بين ما أسماه أسلحة الدمار الشامل العراقية وترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية ما هو إلا مثال صارخ وفظ لتأصل منطق الازدواجية في السياسة الخارجية الأميركية، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بـ «إسرائيل» وترسانتها العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، والكفيلة بأن تدمر الشرق الأوسط بكامله. لا شك أن «ريتشارد هاس»، الذي كان يجري مباحثات مع وزير الخارجية المصري «أحمد ماهر»، يدرك ويعي تماما أنه لا يخاطب عالما آخر لا يعلم شيئا عن «إسرائيل» وتاريخها الدموي باستخدام الأسلحة التقليدية وغير التقليدية ضد العرب، وتأكيده من مصر العربية أن «إسرائيل» لن تستخدم سلاحها النووي ضد العرب، أو غيرهم، في المستقبل القريب أو البعيد، لا يهدف من ورائه طمأنة الدول العربية في هذا الشأن، أو تقديم نوع من الضمان والالتزام الأميركي بعدم السماح لـ «إسرائيل» باستخدام هذا السلاح الفتاك، وإنما توجيه رسالة بالغة الوضوح إلى العرب جميعا، وكل الدول الأخرى التي تطالب بنزع أسلحة الدمار الإسرائيلية ووضع البرنامج النووي الإسرائيلي تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبأن الولايات المتحدة الأميركية ماضية في التستر على أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية، ولن تسمح بأي شكل من الأشكال المساس بهذه الأسلحة، ولاسيما السلاح النووي الإسرائيلي وبرفضه القاطع المقارنة بين خطورة السلاح النووي الإسرائيلي وما أسماه أسلحة الدمار الشامل العراقية، أراد أن يقول إنه لا فائدة أو أمل من الربط بين السلاحين.
بالتأكيد هناك فوارق كبيرة وشاسعة بين ما تزعمه الولايات المتحدة الأميركية عن حيازة العراق على أسلحة دمار شامل، وبين أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية، فمنطقيا لا يجوز التشبيه بين النقيضين وذلك لوهاية وكذب الادعاءات الأميركية بحيازة العراق أسلحة دمار شامل، وبالمقابل اعتراف «إسرائيل» العلني والصريح بحيازتها كميات كبيرة من هذه الأسلحة، بما فيها السلاح النووي، ورفضها القاطع إخضاعها للرقابة الدولية، أو مجرد السماح أو القبول بمناقشة وضعها الراهن ومخاطره على أمن وسلامة المنطقة.
فمن يستمع لتصريحات «ريتشارد هاس» عن السلاح النووي الإسرائيلي يدرك مدى الانحياز الأميركي لـ «إسرائيل» في ضوء السجل الإسرائيلي الحافل في استخدام «إسرائيل» لترسانتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية، ضد العرب في حروبها السابقة، وضد الشعب العربي الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبرفضها المستمر التوقيع على جميع المعاهدات الدولية التي تُحرم استخدام هذه الأسلحة، بعكس غالبية دول العالم، ولكن حال «هاس» هذه يمكن تعميمها على المسئولين الأميركيين كافة، بدءا من سيد البيت الأبيض الذي لا يترك مناسبة إلا ويصف فيها الجنرال السفاح «ارييل شارون» صاحب أطول سجل إجرامي في تاريخ «إسرائيل» بأنه رجل سلام!. إن الموقف الأميركي من أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية لا يتأتى من تصميم الولايات المتحدة الأميركية على ضمان أمن«إسرائيل» وتفوقها العسكري على كامل دول المنطقة فحسب، كما يعتقد البعض، بل لحال التماهي بين المصالح الأميركية والإسرائيلية، وبالتالي الحاجة الأميركية إلى الأسلحة الإسرائيلية وترسانتها غير التقليدية في فرض الأجندة العسكرية الأميركية على العالم كما هو الحال في أفغانستان الآن، ومستقبلا في العراق، فـ «إسرائيل» بمثابة مستودع أسلحة أميركية للاستخدام المزدوج ضد دول المنطقة من قبل «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية عند الضرورة والحاجة، وقيام الولايات المتحدة الأميركية أخيرا بملء مخازن «إسرائيل» بأسلحة متنوعة لاستخدامها في حال ضرب العراق، دليل حي على ذلك.
لا شك في أن عدم استخدام «إسرائيل» لسلاحها النووي ضد العرب حتى الآن لا يعني أنها ليست في وارد استخدامه مستقبلا، ولا يعود مطلقا (لوداعة «إسرائيل» وسياستها السلمية) وإدراكها لمخاطر هذا الاستخدام أو التزاما منها أمام الولايات المتحدة الأميركية بعدم استخدامه، كما يحاول «ريتشارد هاس»، وسواه من المسئولين الأميركيين إفهام العرب والعالم، وإلا ما كان هناك من مبرر لحيازة «إسرائيل» هذا السلاح الفتاك، وتحمل نفقات باهظة في تخزينه، ما قضى أن عدم حاجة «إسرائيل» إلى استخدامه حتى الآن يعود إلى إمدادها من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة بأحدث الأسلحة التقليدية التي لا تقل فاعلية عن بعض الأسلحة غير التقليدية، كالكيماوية والجرثومية، وبالمقابل منع وصول أية أسلحة حديثة ومتطورة إلى الدول العربية.
إن جميع الدلائل والتصريحات الصادرة عن المسئولين الإسرائيليين تدل على أن «إسرائيل» لن تتوانى عن استخدام سلاحها النووي متى أحست بأية مخاطر تعتقد أن أسلحتها التقليدية لا تتكفل بها، وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لن تدع الوضع يصل إلى هذه المرحلة، وبالتالي تجزم بأن «إسرائيل» لن تستخدم سلاحها النووي. فالمشكلة في السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط هي مرور هذه السياسة من البوابة الإسرائيلية وليس من منطلق الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين الذي تدعي الولايات المتحدة الأميركية أنها تعمل لتحقيقه بالقوة العسكرية المسلحة الضاربة أحيانا كثيرة
العدد 70 - الخميس 14 نوفمبر 2002م الموافق 09 رمضان 1423هـ