يقول المناطقة: «عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود». بتعبير آخر أقرب إلى لغة الصحافة والاعلام، يمكن القول بأن خلو صحيفتنا من الأخبار لا يدل دائما على انعدام الأخبار، بل قد يدل على عدم استطاعة مراسلينا في الوصول إلى مصادر الأخبار. ولما كانت الحركة لأزمة أساسية من لوازم الحياة، والحركة تولد أثرا تتركه في المكان والزمان المعينين، فإن الدنيا مليئة بالاثار التي لا تعد ولا تحصى في عالم الطبيعة والانسان المتحركين. والأثر ليس سوى عن الخبر الذي نقوم بنقله عندما يقوم الواحد منا بعرضه على نطاق أوسع من نطاق المكان والزمان المحددين.
وتبادل الأخبار يعني فيما يعني تبادل الخبرات وتراكم التجارب مما يفضي بدوره إلى انتاج وتوليد علوم جديدة. وحدهم الذي يعجزون عن الحركة ويجهلون قوانين التطور الطبيعي والانساني يخافون الخبر وبالتالي يخافون كل جديد، وقد يكرهون التغيير والتحول ويبدأون بمحاربته ظنا منهم بأنه بدعة أو تحريف للواقع الموجود! ومع تعقد الموضوع وتشابكه ودخول عناصر كثيرة عليه يبدأون بنسج فكرة «المؤامرة» الموجهة ضدهم أو التي تحيط بهم إلى لا شيء الا لأنهم لا يريدون أن يروا إلا ما اعتادوا على رؤيته واستأنسوا لسماعه منذ زمن، خصوصا اذا ما كان ينسجم مع مجموع مصالحهم ومنافعهم الشخصية أو الفئوية أو الحزبية الحاكمة.
ويكبر الموضوع ويتضخم ويصبح أكثر تعقيدا وأكثر خطورة ولكن أكثر شفافية وحساسية أيضا عندما يتعلق الأمر بمجتمع بأكمله، وببلاد مترامية الأطراف وبعالم متعدد الميول والاتجاهات والنوازع والتطلعات، بعدما خرج عن حدود الفرد وحتى الجماعة الصغيرة المنعزلة عن حركة المجتمعات البشرية.
من جهة أخرى فإن الحرية والأمن مقولتان متلازمتان في عالمنا المعاصر لا يمكن لأي بلد أو مجتمع أو نظام سياسي تقترحه نخبة من صناع القرار في قطر ما أن تمر عليهما مرور الكرام، أو تبقي النقاش حولهما محصورا في دائرة مغلقة من الأفراد أو «الجماعات» المنتمية لطبقة معينة من الناس يطلق عليها حاشية الحكم لتقرر مفهومهما الاجتماعي في عالم اليوم المتداخل من جهة والسريع التحولات من جهة أخرى.
من زاوية أخرى فانه من السهل على أي حاكم أن يحكم الحصار على شعبه وأهله وعشيرته فلا يجعلهم يرون الا ما يرى ولا يسمعون الا ما يسمع، ولا يرضون الا بما يرضى! لكن هذا الأمر لن يدوم طويلا لأنه مخالف للسنن الكونية، وان دام وطال فإنه لابد أن يتحول يوما إلى بركان متفجر من الأسئلة والتساؤلات التي طالما تجمعت في «بطون» الناس ولم تجد لها متنفسا طبيعيا لتساهم في صناعة الأمن الجماعي بحرية، والرفاهية المشتركة في جو حيوي سليم.
وما يسهل على الحاكم المستبد الذي لا يقبل إلا اللون الواحد والبعد الواحد والقراءة الواحدة للأحداث هو وجود تلك الحاشية والبطانة المستأثرة ببعض المنافع والمصالح الآنية، والتي تخصصت في تقديم صورة مخادعة ومزيفة للحاكم عن الشعب وحركة الشعب وتحولاته وتفاعلاته.
ولما كان قمع الرأي الآخر ومنعه من الظهور أو التبلور هي القاعدة المتبعة لدى هذه الحاشية، فإنها ولشدة تشبثها بهذه الطريقة والوسيلة «الأسهل» لادارة البلاد إلى درجة «الاعتياد» والادمان فانها سرعان ما تبدأ بتصديق تصورها المزعوم عن مجتمعاتها فتقدم تلك الصورة الاحادية والرتيبة عن شعبها وبلدها بمثابة الشعب والبلد المستقر والآمن الخالي من أي صوت مختلف او متسائل ناهيك عن كونه معارضا لرؤية الحاكم أو قراءته!!
ولشدة ما يحلو لها الأمر وتستسيغ مع توجهاتها فإنها تبدأ بتصديقه فعلا، وان بحثت عن غيره فسوف لن تجده بالتأكيد، لأنه يكون قد اختفى وغار عميقا تحت السطح والجلد الظاهري أو القشرة الظـاهرية للمجتمع بالتأكيد.
ولكن في لحظة ما من لحظات التحول التاريخية، وعندما يصبح الأمر لا يطاق وتأتي ساعة الحسم، أو لحظة المنعطف فإن الحاكم والحاشية سيكتشفان أن ما كانا يشهدانه في الظاهر من «أمن واستقرار» لم يكن سوى «امن القبور» وفي مجتمع أمن القبور لا معنى للحرية بالطبع لأن الحرية لا تعني شيئا للأموات! ومجتمع يعيش أمن القبور لا يمكن أن يقدم خدمة للبشرية في أي مجال من مجالات الحياة. في حين أن «الأمن الحيوي» المتحرك الذي يقوم على المشاركة الجماعية للأفراد والجماعات، هو الأمن القادر فعلا على المساهمة في انتاج كل ما ينفع في مجال خدمة البلاد والعباد بالعلوم والتكنولوجيا والروح والتربية النفسية وكل ما يتعلق بعلم الابدان وكذلك علم الأديان.
الاتحاد السوفياتي السابق سقط في امتحان «علم الاحياء» فخسر الحاكم المستبد شعبه على رغم نجاحه في علم الصعود إلى «السماء»، لا لشيء إلا لأنه كان يؤمن بنظرية «أمن القبور» و«حرية الأموات»! وكذلك فعلت الطالبان في افغانستان على رغم انطلاق كل واحد منهما من زاوية ايديولوجية مختلفة عن الآخر لكنهما جنيا ثمرة واحدة هي الخسران.
وحدهم الذين يؤمنون بقدرة الانسان على الابداع والابتكار وايجاد التحول المستمر في عالم الجماد والأحياء طبقا لسنن الله الكونية التي لن نجد لها تبديلا سواء كان «حكم» هذا الانسان باسم العدالة والحرية أو باسم الكمال والسمو الأخلاقي أو باسم رب السماوات والأرضين!
وحدهم هؤلاء النوع من الحكام والمحكومين يمكنهم النجاة «يوم الحساب»، ولا أتجاسر هنا لأتحدث عن اليوم الآخر، بل يوم حساب الشعب ومحاسبته.
في ايران كما في العراق، وفي البحرين كما في عمان وفي مصر كما في سورية ولبنان بل في كل أرض يتحرك فيها الانسان تعيش مجتمعاتنا العربية والاسلامية معركة «حرية الأحياء» مقابل «حرية الأموات».
مدرستان لا تتصالحان ولا تلتقيان وان اصطدمتا فان الخاسر الأول والأخير هو انساننا المسلم الذي يعاني هوة المسافة العميقة التي تفصل بين بلاده وعالم ما حوله من صناع العلوم، علوم الأحياء وعلوم الصعود إلى السماء.
ووحدها العودة إلى الذات والتمسك بتعاليم الدين الاسلامي الحنيف، صاحب الشريعة السهلة السمحة الحنيفة قادرة على أن تقدم قراءة متصالحة بين «علم السماء» و«علم الأحياء» لنا بما يؤهلنا كأمة صالحة للزمان والمكان، وذلك غير ممكن وغير عملي إلا بطرد منهج التكفير والتفسيق والطرد والعزل لكل من هو مخالف لنا أو مختلف معنا والتخلي عن منهج أمن القبور وحرية الأموات لصالح أمن الحركة والابداع والحرية كل الحرية للأحياء حتى وان كان الكلام ضدنا
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 70 - الخميس 14 نوفمبر 2002م الموافق 09 رمضان 1423هـ