قبل 10 أيام فَقَدَت الجزائر (أو لِنَقل العالم العربي) رجلاً «مسناً» و «كبيراً». مُسِناً كون عمره قد تخطى الـ 90 عاماً، وكبيراً لأنه بحق كان أحد الأكابر في علوم العربية. إنه البروفيسور عبدالرحمن حاج صالح رئيس المجمع الجزائري للغة العربية الذي فاضت روحه بمستشفى عين النعجة بالعاصمة الجزائر، بعد 60 سنة أفردها في خدمة اللغة العربية والذود عنها في الجزائر وخارجها حتى.
في الثامن من يوليو/ تموز من العام 1927م رُزِقَت مدينة وهران ثم الجزائر كلها بعبدالرحمن دون أن يعلم أحد أن هذا المولود سيكون له شأنٌ كبير في مستقبل وطنه الذي كان حينها يُكابد الاستعمار الفرنسي منذ 97 عاماً. وعندما شبّ عبدالرحمن قليلاً تعلّم على أيدي علماء جزائريين ينتمون إلى جمعية العلماء المسلمين التي أسسها عبدالحميد بن باديس، ليصل ما تعلّمه تالياً برغبته في دراسة الطب، وتحديداً جراحة المخ والأعصاب.
وعندما ذهب إلى مصر للدراسة الجامعية، أخذ يتردد على الأزهر الشريف حيث اكتُشِفَت مَلَكَاته في اللغة العربية ليُعطَى شهادة في التبريز (دون مرحلة الدبلوم). ولم يأتي العام 1960م إلاّ وحاج صالح يُدرِّس اللسانيات في كلية الآداب بالمغرب. وعندما استقلت الجزائر عُيِّن رئيساً لقِسْمَيْ اللغة العربية واللسانيات بكلية الآداب في جامعة الجزائر، ثم عميداً لها في العام 1968م.
وكان بن صالح وإلى جانب عمله الجامعي عضواً في عدد من مجامع اللغة العربية في مصر ودمشق وبغداد وعَمَّان، وفي عددٍ من الهيئات والمجالس العلمية. كما تفرَّغ الراحل للبحث والتحقيق في مجال اللغة. والحقيقة أن الدور الذي لعبه هذا العالِم قد يُصبح مضاعفاً إذا ما عَلِمنا أن الجزائر لم تتعرّض فقط إلى عملية فرنسة سياسية أو اقتصادية، بل أيضاً على المستوى الثقافي كذلك.
والجميع يتذكر القرار الذي أصدرته فرنسا في شهر مارس/ آذار سنة 1938م (وهو ما عُرِفَ بقرار شوطون) بمنع استخدام اللغة العربية في الجزائر واعتبارها لغة أجنبية. وهنا مناسبة جيدة، كي نتحدث عن هذا الأمر، مستذكرين الجهود التي بُذِلَت في هذا الشأن للحفاظ على اللغة العربية، ليس من جانب البروفيسور صالح بل أيضاً من أناس آخرين بعضهم أجانب نسيهم التاريخ مع شديد الأسف.
فلويس جاك برنيه المولود في العام 1814م يُعتبر واحداً من أهم العلماء الذين اهتموا باللغة العربية وممن تعلّموا على يد شيخ المستشرقين الفرنسيين أنطوان إيزاك دي ساسي (1758م 1838م). فهذا العالِم وبعد أن أتقن العربية قام بتدريسها أزيد من ثلاثة عقود في الجزائر، وألّف فيها المصنفات، وترجم متن الأجرومية لأبي عبدالله بن أجروم، فضلاً عن اعتنائه بالخط العربي.
كما تجب الإشارة إلى أحد فطاحل اللغة العربية وهو جورج دلفين الذي درّس العربية في الجزائر واعتنى بها أيّما عناية حتى وفاته سنة 1922م. فقد ألف هذا الأستاذ الكثير من الكتب العربية كجامع اللطائف وكنز الخرائف، وأقرّ مناهج صارمة في العربية. وكذلك إسهامات لويس ماشويل.
وربما كان هؤلاء امتداد لاهتمام الطبقة العلمية في فرنسا باللغة العربية وآدابها. إذ لا يمكن نسيان دور بيبرستين كازمرسكي ولا المسيو بارون ولا كليمان موله وغيرهم. فهؤلاء ألفوا كتباً في أصول اللغة العربية وفي شخصيات الشعر القديم وترجموا الكثير من الكتب مثل كتاب الفلاحة لابن العوام كما يشير إلى ذلك لويس شيخو في كتابه تاريخ الآداب العربية.
والحقيقة أن دور هؤلاء في جوهره كان مضاداً لمساعي فرنسا في طمر اللغة العربية في الجزائر. فالفرنسيون لم يُدركوا أن ارتباط العربية بالدِّين يجعلها أكثر رسوخاً في الوعي الجمعي عند الجزائريين، فضلاً عن أن تغيير لغة شعب أمر دونه شيب الغراب ويحتاج إلى مئات السنين.
فالدولة الرومانية التي هيمنت على بلاد الغال (بلجيكا وفرنسا حالياً) في القرن الأول الميلادي، لم تتغلب على لغة الأرض (السلتية) إلاّ في القرن الرابع الميلادي (والبعض يقول القرن الخامس). كذلك الحال مع العربية والقبطية التي كان يتحدث بها أهل مصر. فالتاريخ يُحدّثنا أن الخليفة المأمون وعندما كان يزور مصر (وتحديداً الريف) كان يرافقه مترجم كون المصريين ظلوا يستخدمون القبطية على رغم دخول الإسلام إلى مصر، وعلى رغم قيام الأمويين وتحديداً خلال خلافة الوليد بن عبدالملك بتكريس استخدام العربية في الدواويين كما يشير علي وافر في علوم اللغة.
بالرجوع إلى العربية ورجالاتها في الجزائر، وتاريخ الريادة فيها فإن من المهم التأكيد على الشخصيات التي ساهمت في الحفاظ على العربية ومنهم الفرنسيون المسيحيون، ممانعين بذلك منطق الدول الإمبريالية التي ينتمون إليها بالمواطنة وهي فرنسا، ففي ذلك عمل شاق كونهم كانوا ضد تيار الدولة الثقافي والسياسي في تلك الفترة، وهم بذلك كانوا في حالة نضال غير مباشر للاستعمار الفرنسي إلى جانب الجزائريين.
كذلك، وباستحضار الفقيد عبدالرحمن حاج صالح فإن من المهم القول بأن العمل الذي قام به في بلاده الجزائر التي احتُلَّت لأزيد من 130 سنة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين من دولة أرادت طمس هوية الجزائر العربية والإسلامية يُعدّ نضالاً حقيقياً خلال فترة بناء الهوية من جديد بعد الاستقلال. فرحم الله الفقيد وخالص التعازي للشعب الجزائري الشقيق في هذا المصاب الجلل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5304 - الأربعاء 15 مارس 2017م الموافق 16 جمادى الآخرة 1438هـ
المقال روعه..ياريت تكتب عن الغير عرب كالاندونسيين والهنود والفرس الذين برعوا في اللغه
شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب.
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب!
قلم راق
بارك الله فيك
مستوى راقي في كل مقالاتك
رحمه الله ورحم الله الشيخ بن باديس