شَهِدت العلاقات التركية الإيرانية في الأيام الماضية توتراً دبلوماسياً إثر اتهامات متبادلة لمسئولين في البلدين. فقد وجَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو ونائبه أوميد يالجين والمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، انتقادات حادة لسياسات طهران في العراق وسورية، ما جَعَلَ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لأن يقول خلال مقابلة له مع وكالة أنباء فارس: «إن تركيا نست أننا لم نغفُ حتى الصباح في ليلة الانقلاب الذي شهدته». كما ردّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي على تلك التصريحات بالقول إن على المسئولين الأتراك أن يتحّلوا بـ «المزيد من الذكاء في تصريحاتهم تجاه إيران كي لا نضطر للرد ولكن لصبرنا حدود»، وهو تراشق إعلامي اعتُبِرَ سابقة في العلاقات بين البلدين.
لكن ما لبث مسئولو البلدين أن أمسكوا بمبادرة التهدئة، فالتقى أردوغان روحاني في إسلام آباد على هامش قمة منظمة التعاون الاقتصادي؛ ليتفقا على تحسين العلاقات بين بلديهما والعمل على حلحلة قضايا المنطقة.
كما قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو إن بلاده لن تنسى «دعم إيران ووقوفها إلى جانب تركيا حكومة وشعباً في الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 يوليو/ تموز 2016».
«الوسط» تفتح ملف العلاقات التركية الإيرانية تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وكيف لَعِبَت وتلعب المصالح في تشكيلها.
نظرة تاريخية
لم تشهد العلاقات التركية الإيرانية نزاعاً مسلحاً منذ 503 سنوات بعد معركة جالديران. بل إن البلدين وقّعا العديد من الاتفاقيات بعدها، كمعاهدة زهاب في العام 1640م. واستمرت العلاقات بين الجانبين حتى مع انهيار الدولة الصفوية في إيران ومجيئ القاجاريين في العام 1779م الذين وقعوا مع العثمانيين معاهدة أرضروم بين محمد شاه والسلطان عبدالمجيد في العام 1847م ثم مع الأسرة البهلوية في إيران. كما أن انهيار الدولة العثمانية وإعلان النظام الجمهوري العلماني في تركيا في العام 1923م خلق فضاءً جديداً للعلاقة التركية الإيرانية. إذْ إن مجيء مصطفى كمال أتاتورك وإلغاءه السلطنة العثمانية وإحلال سياسات التغريب كنمط ثقافي في تركيا لاقت صدى كبيراً لدى الشاه رضا بهلوي الذي كان يميل إلى اللادينية، ما جعله يرى في «تركيا الجديدة» نموذجاً يُحتَذَى به. فبعد عام على مجيئه للسلطة وقبل أن يُتوَّج ملكاً وقع اتفاق صداقة مع أنقرة في 22 أبريل/ نيسان العام 1926م تضمّن مبادئ عدم اعتداء، بل والمساعدة المشتركة للطرفين على أراضي البلدين ضد كل مَنْ يهدّد أمن طهران وأنقرة. وبعد ست سنوات وتحديداً في 23 يناير/ كانون الثاني العام 1932م رُسِّمَت الحدود بين البلدين، وبعد سنتين على ذلك قام الشاه رضا بهلوي بزيارة لتركيا دامت 14 يوماً.
وبعد مجيء الشاه الابن إلى الحكم في بداية الأربعينيات أخذت العلاقة بين الجانبين تأخذ شكلاً أكثر تطوراً بعد أن أصبح البلدان ركيزتين أساسيتين في الحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية تكافحان المد الأحمر. ففي الوقت الذي أنشأ فيه الشاه المكتب الثامن في السافاك لمكافحة الشيوعية قام الأتراك بتولّي مهمّة صدّ المساعي السوفياتية في غرب آسيا.
بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في 11 فبراير/ شباط 1979م لم تتراجع العلاقات بين الجانبين، بل بقيت على حالها، وبات المتسالم عليه أن الأتراك يفتحون الباب لإيران نحو الغرب، وأن الإيرانيين يفتحون الباب للأتراك نحو الشرق. لكن الكثير من المؤرخين يربطون بين انقلاب الجنرال كنعان إفرين سنة 1980م وبين انتصار الثورة، لإعادة التوازن بعد وصول وَهَجَ الثورة إلى تركيا على المستوى الثقافي، إلاّ أن العلاقة بقيت مستمرة، بل كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بنظام الثورة. وقد وصف رئيس الوزراء التركي الأسبق بولنت أيسفيت العلاقات بين الجانبين بـ «الخاصة». لذلك لم يساند الأتراك العراق في حربه ضد إيران بل كانوا متنفساً مهماً للاقتصاد الإيراني خلال الحرب، كما تشير الوقائع التاريخية.
إيران وإسلاميو تركيا
عندما انتصرت الثورة في إيران نهاية السبعينيات من القرن الماضي، تأثرت النخبة الإسلامية في تركيا بذلك الحدث. وتعزّز ذلك مع مجيء حكومة مهدي بازركان «الأفندي» في ظل وصاية رجال الدِّين، ما اعتبره الإسلاميون الأتراك تطوراً ودافعاً لأفكارهم. وبقيت تلك العلاقة لا تزيد على هذا المنسوب، لكنها ومع مجيء نجم الدِّين أربكان ذي الميول الإسلامية إلى رئاسة الوزراء في تركيا نهاية شهر يونيو/ حزيران 1996م تبدّلت العلاقة لتأخذ جانباً عملياً أكثر. فقد استهلّ أربكان جولته الأولى خارج تركيا بزيارة إيران بعد أقل من شهر على توليه المنصب مُوَقِّعاً معها اتفاقاً لتصدير الغاز الطبيعي لبلاده مدته ربع قرن، بقيمة 23 مليار دولار. وقبل مغادرته المنصب بأسبوعين، أعلن من إسطنبول عن إنشاء مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية التي ضمت كلاً من تركيا وإيران ومصر ونيجيريا وباكستان وبنغلاديش وإندونيسيا وماليزيا.
وبعد الإطاحة بأربكان في يونيو سنة 1997م، وحلّ حزبه (الرفاه) في العام 1998م بدأ الإسلاميون الأتراك يعيدون تنظيم صفوفهم من دون شعار ديني كي يَلِجُوا الانتخابات في العام 2002م. ومنذ ذلك التاريخ حقق الإسلاميون الأتراك انتصارات بطيئة لكنها متوالية في الاستحقاق البلدي ثم النيابي وأخيراً الرئاسي. وقد رحّبت إيران بتقدم الإسلاميين الأتراك منذ البداية. ففي ظلهم تعززت العلاقات بين الجانبين إلى مستويات لم يسبق لها مثيل. فلم يأتِ العام 2011م إلاّ والتبادل التجاري قد وصل بينهما إلى 16 مليار دولار مع الرغبة إلى زيادته إلى 30 مليار دولار. وظلت إيران ثاني أكبر بلد بعد روسيا مُورّداً للغاز إلى تركيا (تُصدِّر إيران إلى تركيا 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً) والنفط الخام (تؤمن إيران لتركيا ما بين 28 و50 في المئة من احتياجاتها من النفط الخام). كما أن حزب العدالة والتنمية وبعد مجيئه للسلطة بـ 3 سنوات فقط مكَّن إيران من نقل غاز تركمانستان إلى تركيا ومن ثم إلى وسط أوروبا عبر أراضيها، ودفع بشركة النفط التركية تي بي آي سي لأن تضع تقنيتها تحت تصرف الإيرانيين للتنقيب في حقولهم، ووقّعت معهم مذكرة تفاهم لمد أنابيب من تبريز (شمال غرب) حتى منطقة ترابزون التركية. كما سعت الحكومة التركية بالتوسط لدى الغرب لتسوية المشكلة النووية مع إيران، واستضافت جولتين من جولات التفاوض في العامين 2012م و2013م.
وعلى رغم اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011م واصطفاف كِلا الجانبين التركي والإيراني على طرفَيْ نقيض من تلك الحرب إلاّ أنهما حافظا على العلاقة القوية بينهما بناءً على منطق المصالح القائم بينهما، كما يشير المحللون.
مدارات التنافس
تبدو تركيا لإيران والعكس صورة من صور التنافس الحر ولكن في قالب من التعاون الذي لا غنى للطرفين عنه. ولو أردنا أن نستعرض جانباً من تلك الصور يمكن أن نُسجِّل التالي:
المدار الأول: آسيا الوسطى: عندما تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991م وجدت كل من تركيا وإيران مساحة شاسعة من الأرض في آسيا الوسطى تزيد على الـ 4 ملايين و295 ألف كيلومتر تجاورها جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً هي عبارة جمهوريات ناشئة لكنها تمتلك ثروات هائلة. وقد وَجَدَ الإيرانيون والأتراك أنهم يسيرون في منظومة علاقات جديدة لتسمية مصالحهم من شمال شرق كازخستان حتى جنوب غرب أذربيجان يتداخل فيها الديني والعِرقي. فوجد الإيرانيون حضورهم الديني في أذربيجان (الشيعية) والعِرقي في طاجيكستان وأوزبكستان (اللغة الفارسية)، وكذلك وجَدَ الأتراك نفوذهم العِرقي في تركمنستان، وكذلك مع الأوزبك حتى سنجان وتركستان الشرقية. ثم بدأت مصالح البلدين تتخطى تلك التصنيفات بعد اندلاع الحرب الأذربيجانية - الأرمينية حول إقليم ناغورني كاراباغ. وقد سعى كل من الطرفين لتعزيز تواجده في تلك المنطقة. فإيران رَبَطَت شبكة مواصلاتها بآسيا الوسطى لزيادة صادراتها إلى هناك، وأغرت تلك الدول بإمكانية استخدامها لميناء جابهار الإيراني، في الوقت ذاته الذي أعطت الصين ممرات سكك حديد في المناطق الغربية لإيران كي تصل إلى منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. أما الأتراك فقد سعوا كذلك لزيادة مبادلاتهم التجارية مع تلك الدول بل وحتى العسكرية كذلك، عبر افتتاح شركات تصنيع فيها.
المدار الثاني: العراق: بعد عقد على ظهور ذلك الفضاء الجديد من التنافس في آسيا الوسطى غزا الأميركيون العراق وتحديداً في أبريل سنة 2003م ما جعل مركز الحكم في بغداد ينهار، ليملأه المعارضون لصدام حسين الذين كانوا يتحالفون مع طهران تقليدياً منذ العام 1980م. وقد أدى ذلك لأن يتزايد النفوذ الإيراني في العراق من الجنوب حيث البصرة حتى العاصمة بغداد في الوسط وصولاً إلى الشمال حيث السليمانية وكركوك المحاذيتان للموصل، ما شكَّل تحولاً كبيراً في موازين القوى في المنطقة وأمام تركيا تحديداً. فقد أصبح النفوذ الإيراني متصلاً من العراق مروراً بسورية فلبنان فالأراضي الفلسطينية المحتلة حتى البحر الأبيض المتوسط وبالقرب من جزيرة قبرص وعموم الجنوب التركي.
نقطة نظام
تبدو دائرة التمحيص التي تمرّ بها سياسات كل من تركيا وإيران لا تقتصر على تلك المدارات فقط بل هي تمر أيضاً على خط متعرّج من السياسات الدولية المتباينة. ففي الوقت الذي تدخل فيه طهران في صراع يهدد أمنها القومي مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل نرى تركيا تمتلك علاقات وثيقة مع هاتين الدولتين، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وقد كان لتلك العلاقات ضريبتها بالنسبة للأتراك. ففي الوقت الذي حافظوا فيه على علاقاتهم الوثيقة مع طهران، ولم يلتزموا بالعقوبات الدولية عليها، وافقوا على نصب منظومة درع صاروخي لحلف شمال الأطلسي في منطقة كوراجيك شرق الأناضول، الأمر الذي جعل إيران في حالة خلاف مع أنقرة، إلاّ أن مساعي أحمد داوود أوغلو آنذاك بدّدت من مخاوف طهران في تلك الفترة.
لذلك تسعى تركيا لتقريب وجهات النظر بين إيران والغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية؛ لأنها تعتقد أن انفتاح الغرب على إيران سيجعلها (أي تركيا) في حالة «سراح دبلوماسي» مع إيران. كذلك فإن ذلك التقارب قد تُرخِي قبضة إيران على بعض الملفات في المنطقة، والتي تمسك بها لتحسين شروط التفاوض مع زيادة رقعة نفوذها. لكن وأمام ذلك كله، لا ينفي أحد الحاجة التركية لإيران كما هو حاجة إيران لتركيا في المجال الاقتصادي. فأنقرة التي لا تمتلك علاقات جيدة مع العراق ولا مع سورية وهما من جوارها الأهم تريد من طهران أن تفتح لها باباً لحلفائها في بغداد ودمشق، فضلاً عن الفوائد الجمّة التي تجنيها تركيا جراء العلاقات التجارية مع طهران، فهناك الشركات التركية العاملة في إيران والاتفاقيات الموقعة بين الجانبين كإنشاء خمس محطات كهرباء مشتركة، ووجود 160 من رجال الأعمال الأتراك في إيران يديرون استثمارات كبيرة. (خلال زيارة أردوغان الأخيرة لطهران تم التوقيع على اتفاقيات اقتصادية بقيمة 10 مليارات دولار)، كما تشير وقائع الاتفاقيات.
الورقة الكردية
يشترك البلدان في هَمٍّ أمني واحد يتمثل في الموقف من الأكراد الذي يتوزعون شتاتاً في أربع دول في المنطقة هي تركيا والعراق وإيران وسورية. ففي تركيا يقاتل حزب العمال الكردستاني حكومة المركز في أنقرة، يقاتل حزب الحياة الحرة (بيجاك) حكومة المركز في طهران. وقد دفع ذلك البلدان لأن يُنسِّقا الأمر بينهما منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وفي كل حقبة من حقب الحكم في البلدين يتم التأكيد على ذلك. فمع مجيء حزب العدالة والتنمية زار رجب طيب أردوغان إيران في يوليو من العام 2004م وأبرم اتفاقاً أمنياً لتجريم حزب الـ PKK. وعندما كان الجيش الإيراني يقصف جبال قنديل في شمال العراق لملاحقة حزب بيجاك كان الأمر يتم وفق غرفة عمليات مشتركة مع الجيش التركي.
وعندما استخدم السوريون للورقة الكردية ضد تركيا في التسعينيات وما آل إليه الأمر من نزاع كاد أن يكون عسكرياً ضغط الإيرانيون على دمشق لطرد عبدالله أوغلان وإبرام اتفاق أضنة في العام 1998م. كانت إيران ترى أن تواجدها القوي في سورية منذ العام 1982م يجعل أمامها مسئولية حماية الأمن القومي التركي من مناطق الجنوب. لذلك شجّعت طهران حكومة بشار الأسد كي تعزز من علاقاتها مع أنقرة، وبالفعل كانت زيارة الأسد إلى تركيا في العام 2005م هي الأولى لرئيس سوري منذ الاستقلال.
هذا التعاون في أساسه هو في رفض انفصال كردستان وقيام كيان دولة كردية تعتبر تهديداً للدولتين معاً. لكن لا يعني ذلك أيضاً أنه لا يوجد خلاف بين الجانبين حول المسألة الكردية، يُفسّره تقاسم البَلَدَين النفوذ وسط أكراد العراق بين أربيل والسليمانية، إذ بات الأتراك ينسجون علاقاتهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة آل البرزاني في أربيل، بينما الإيرانيون كانت ومازالت علاقاتهم الأقوى هي مع الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني في السليمانية.
الحرب الأهلية السورية
كانت الحرب الأهلية السورية واحدة من أهم اختبارات الصمود في العلاقة التركية الإيرانية. فهذه الأزمة التي انتقلت بسرعة من مظاهرات عفوية إلى حرب انخرطت فيها العديد من الدول، أفضت لأن يكون مسارها ضمن الاستراتيجيات الكبرى في منقطة الشرق الأوسط والصراع على منابع الطاقة وممراتها. فإيران رأت في زعزعة الأمن في سورية هو زعزعة لأراضيها بشكل مباشر، بعد أن تحوطها دول لديها علاقات قوية مع الولايات المتحدة الأميركية. وقد تحدث عن ذلك مسئولون إيرانيون بشكل صريح. كما أن ذلك يحرمها من الوصول إلى أهم حليف لها في المنطقة وهو حزب الله في لبنان، وبالتالي إلى نقطة التماس مع إسرائيل.
أما تركيا فهي ترى أن انفراط عقد السلطة في سورية ومجيء حكومة يهيمن عليها الإسلاميون سيعوّضها عن الخسارة في العراق وسيمنحها فرصة الحركة في المناطق الغربية للعراق وصولاً إلى لبنان وفلسطين ومتاخمة الأردن. كما أنه سيقيّد طموحات لواء الاسكندرون المقطوع من سورية في الثلاثينيات بعد أن يُطوَّق من جهة حلب. وعلى رغم كل ذلك مازالت العديد من الشخصيات السياسية في تركيا ومن حزب العدالة والتنمية نفسه تخشى من أن انهيار السلطة في سورية سيسبب مشاكل طائفية وعِرقية لتركيا (الأكراد والخلاف المذهبي السُّني الشيعي).
مبدأ تركيا الجديد
خلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية قال أحمد داوود أوغلو الذي يُعتبر مُنظِّر الحزب: «إن لدينا ميراثًاً آلَ إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون إننا العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا مُلزَمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا». ووفقاً لتلك النظرة من شخصية محورية في الحكم التركي يظهر لنا كيف بدأ الإسلاميون الأتراك في تغيير بُنية السياسة الخارجية لبلادهم باعتمادهم البُعد الديني لكسب المزيد من المصالح. فالنفَس الذي يحكم التوجهات الجديدة هو إيجاد مقاربات متينة تمزج ما بين الجغرافيا (الأبعد) لتركيا مع الثقافة (الأعمق) لها انطلاقاً من التاريخ العثماني، والتحوّل من «دولة جسر» إلى «دولة مركز» مع كل هذه التحولات الهائلة في العالم.
لقد عوَّل الأميركيون كثيراً ومازالوا على قيام دور تركي في العالم العربي عبر استخدام القوة الناعمة يُكرِّس لمفهوم جديد للحكم في المنطقة عبر الإتيان بأنظمة سياسية ديمقراطية تؤمن بما يُسمونه الإسلام المعتدل، يستوعب قِيَم المجتمعات العربية الدِّينية وفي الوقت نفسه قادر على التعاطي بإيجابية مع السياسات الغربية من دون خصومة، ومنها إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، والأهم هو تعطيل مشاريع الجهاد التقليدية في الثقافة الدينية، التي يرون بأنها خرجت من «التوظيف السياسي» إلى «الايديولوجية العنيفة» كما حصل مع المجاهدين في أفغانستان واليوم في سورية. وقد مالَت العديد من النخب الإسلامية العربية نحو النموذج التركي في السنوات العشر الأخيرة، وباتت بعض الأدبيات التركية السياسية تسود في غير بلد عربي لدى الجماعات الإسلامية المنخرطة في الدولة.
من هذا المنطلق بدأت أنقرة تتوازَى مع إيران في طرح النموذج الديني للشعوب العربية وإقناعها بأن تركيا تستطيع أن تملأ الفراغ الديني القيادي الذي تعيشه تلك المجتمعات. وهو بُعد جديد من أبعاد التنافس التركي الإيراني. نعم كان للأتراك دور مهم في الحرب الشيشانية الأولى (1994م) والثانية (1999م) حين كانت علمانية في دعم حركات التمرد الجهادية هناك ضد روسيا لكنه كان دوراً وظيفياً بتكليف أميركي ولأهداف أميركية صرفة، لكن اليوم فإن الأمر بات مختلفاً ليصبح دوراً مؤدلجاً لتحقيق أهداف مشتركة تركية - أميركية تجاه المنطقة العربية بأسرها.
من هنا يظهر أن الأتراك رأوا أن الأمور قد لا تؤول إليهم إذا ما اكتفوا بمراقبة السياسات الأميركية في المنطقة واستفادة الإيرانيين من عثراتها كما حصل في كل من أفغانستان والعراق، لذلك فهم استثمروا حالة خلاف بعض الدول العربية مع إيران كي يبنوا جسوراً على الجسور المهدومة بهدوء (الحالة مع دول الخليج مثالاً).
لذلك يندفع الأتراك نحو العالم العربي من منطلق الدينامية الدبلوماسية عبر إلغاء التأشيرات لمواطني بعض الدول العربية وتعزيز العلاقات الاقتصادية والسعي لإقامة مناطق حرة للتجارة، وطرح مبادرات سياسية لتسوية قضايا داخلية كما حصل في ليبيا، واحتضان معارضات كما حصل في سورية، ودعم البرامج المدنية والديمقراطية لإصلاح الأنظمة السياسية، وإطلاق برامج تعليمية على غرار ما فعلت في آسيا الوسطى والاهتمام بالإعلام المرئي والاتصالي (إطلاق قناة تي آر تي الناطقة بالعربية منذ العام 2010م مثالاً)، وعقد مؤتمرات وتنظيم ورش عمل كما يشير العديد من المراقبين. أما في الدائرة الأوسع فعبر التعاطي مع القضية الفلسطينية. وهي الوسائل ذاتها التي تتبعها إيران، مع الفارق أن الإيرانيين أكثر نشاطاً في المجال الثقافي وعقد المؤتمرات والتبادل الطلابي وفي المجال الإعلامي.
الخلاصة
أمام كل ذلك الالتقاء والتنافس يقف الساسة الأتراك اليوم بشكل مختلف لكنه محسوب في الطريقة المفترضة للتعاطي معها. والذي يبدو اليوم، أنه ومع انشطار الحركة الإسلامية في تركيا بعد إزاحة غولن، ثم تهميش شخصيات بارزة في حزب العدالة والتنمية كالرئيس التركي السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو الذين كانوا يميلون إلى الحلول الدبلوماسية الناعمة، أصبح الباب مفتوحاً أمام الصقور في حزب العدالة والتنمية. وهو رأي يؤمن به مدير الاتصالات في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات في بروكسل هيو بوب.
لكن كل هذا لا يمكنه أن يدفع تركيا وإيران للقفز على حقائق الجغرافيا والعِرق والمصالح الاقتصادية، وإلاّ عليهم أن يُغيِّروا أشياء كثيرة من جلدتهم وهويتهم وشراكتهم التي تشكلت عبر قرون عديدة.
العدد 5304 - الأربعاء 15 مارس 2017م الموافق 16 جمادى الآخرة 1438هـ