برحيل محمد عبدالعزيز البدر تكون الكويت قد غادرها أحد أبرز قيادات المقاومة وأعلى قياداتها العسكرية رتبةً، إبان الغزو، كما يكون قد غادرها أحد أبرز رموز الالتزام، والصدق، والوطنية، في زمنٍ نحن بحاجةٍ إليها.
لن أخصّص هذه الزاوية للحديث عمّا هو تقليدي ومعروف عن أبوبدر، من التزامه العسكري، وانضباطه، وصدقه، وقدرته على التنفيذ، ولكن ربما عن علاقتي به أثناء الغزو، حين عرفني عليه الحبيب الغائب الحاضر يوسف المشاري، رحمه الله، أركان قيادة المقاومة.
فخلال الغزو، وتحت حراب الخطر، نمت بيننا علاقة حميمة جداً، كنا نلتقي بصورة شبه يومية. نحاول علاج الحالة البائسة التي أحالنا إليها غزو صدام لنا. كنا نتشاور في الكثير من الأمور، بما في ذلك تشكيل اللجنة العليا. كان باستمرار يمازحني بأنه رجل عسكري لا يفهم بالسياسة، ولكن استمرار الحديث معه يتسلل بهدوء ليكشف عن متابعة ورؤية لما يجري، وموقف رافض لما آلت وتؤول إليه الأمور.
«نحن في زمن الرويبضة»، قالها ذات مرة، «ولا يمكن مواجهة تلك الثقافة إلا بالصدق والالتزام والحزم». علقت: «وين يابوبدر، تعدينا زمن الرويبضة، صرنا في زمن الرويبضة 7»، فينطلق ضاحكاً دون توقف.
ظل «أبو بدر» بشموخه المعهود، لم ينكسر، لا يقبل مهمةً ما لم يكن قادراً على إنجازها، ويأخذ التعهدات من أعلى المستويات على عدم التدخل السياسي، بالتزام وصدق كاملين، وهو ما تفتقده البلاد في زمننا الرديء.
أذكر جيداً تلك الليلة الحزينة في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، حيث كنا في مقر قيادة المقاومة، بمنزل بمنطقة النزهة، نتباحث في كيفية التصدي للغزاة. انفرد محمد البدر بالتحذير من أن وجودنا صار لافتاً للانتباه، وأن عدد السيارات بالخارج يثير الريبة في منطقة صغيرة كالنزهة. كان اللقاء بعد المؤتمر الشعبي الذي عقد في السعودية، وكان عبدالوهاب المزين، رحمه الله، أحد قادة المقاومة، قد عاد تهريباً للتو، وكنا نسعى لتكوين تصوّر للموقف. كان الحديث يركز على كيفية دعم الناس الموجودين بالوطن، ورفع روحهم المعنوية بمواجهة الغزاة، وكان يوسف المشاري، رحمه الله، مؤيداً للتركيز على المقاومة المدنية. كم كان حدس محمد البدر دقيقاً، ففي تلك الأثناء سمعنا قرعاً على الباب، فذهب محمد البدر للإجابة، فعاد بسرعة، قائلاً: علينا أن نترك البيت الآن، فهناك شخص يقول إن صاحب البيت قد طلب منه المرور والاطمئنان على أحوال المنزل. استجبنا لطلب أبوبدر، وبدأنا بنقل بعض الأغراض من البيت إلى بيت مجاور كان مخبأ به تلفون الستلايت. ومن المؤسف أن يوسف المشاري وعبدالوهاب المزين وصحبهما ظلوا يتحدثون وتباطأوا بالخروج، فما إن وصلنا للبيت الآخر القريب منه، وبعد دقائق معدودة، حتى اكتشفنا أن قوات عراقية تم إبلاغها بوجود أشخاص غرباء في البيت قد اقتحمت البيت واعتقلت من فيه. شاهدنا ما جرى ونحن في البيت المجاور، طلب منا محمد البدر مغادرة المكان. كنا حينها ثلاثة، محمد البدر ومحمد القديري وأنا. لم أر بوبدر في مثل تلك الحالة النفسية. كان كالأسد الجريح، يحاول أن يخرج رفاقه من الاعتقال، ونحاول من جانبنا تهدئته والتفكير معه. تسورنا البيت من الخلف مقابل الفيحاء واتجهنا لسيارتنا التي أوقفناها بعيداً قرب المطافي، وأوصلناه لمكانه، وأوقفنا الاتصالات بيننا لبعض الوقت. التقينا بعدها مرات كثيرة، وكان يعاني ألماً نفسياً على اعتقال «الربع»، ثم اعتقال عصام الصقر، الذي حاول التفاوض للإفراج عنهم، فانتهى الأمر به معتقلاً. كان همه الآخر هو كيفية تعويض تلفون الستلايت، الذي فقد، حيث كان هو وسيلة الاتصال الرئيسة بالخارج، ذهبنا معاً لعدة جهات ومسالك لتعويض التلفون دون جدوى. ومع ذلك استمررنا في اللقاءات ومحاولة وضع الحلول وتنفيذ ما نستطيع تنفيذه. سألته ذات مرة: «ألا تفكر في الخروج؟ فالوضع صار أكثر خطورة»، كانت إجابته مقتضبة «لا»، ثم التفت إلي مبتسماً: «وأنت ألا تفكر في الخروج؟»، فأجبته «لا»، فرد ضاحكاً: «إذا ليش تسألني؟».
بعد شهور عدة وقعت بالأسر، وعندما خرجنا وعدنا للوطن، جاء ليتحمد لي بسلامة العودة: «الحمد لله على سلامتك، والله كنت خايف عليك، بس الظاهر عندك خرزة»، قلت له: «أعرفك عينك مو حارة والحمد لله على كل حال، الخوف على الربع يابوبدر، وفرحتنا ما تكتمل إلا إذا ردوا». صمت لثوانٍ مخفياً حزنه الدفين على «الربع»، الذين لم يعد أغلبهم، فرحمهم الله جميعاً، حيث أدوا الأمانة لوطنهم بكل اقتدار.
ربما يكون هناك متسع في المستقبل للحديث عمّا هو غير منشور عن رجل فذ، إنسان بمعنى الكلمة، أعطى لقيمة الالتزام والصدق والوطنية معانٍ أسمى. ستفتقدك الكويت يا أبا بدر.
رحم الله محمد عبدالعزيز البدر، وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا جميعاً الصبر والسلوان، وعائلته الكريمة فرداً فرداً كذلك.
إقرأ أيضا لـ "غانم النجار"العدد 5303 - الثلثاء 14 مارس 2017م الموافق 15 جمادى الآخرة 1438هـ
الله يرحمه ويرحم جميع الموتى والشهداء .. اهم شي ان المجرم اخذ جزاه ما اقترفته يداه !!