قبل نحو عشرين عاماً كنت أتردد على "المكتبة الإسلامية" في قلب العاصمة المنامة، وكانت هذه المكتبة تحوي من الكتب التراثية ما لا يوجد في غيرها من المكتبات المحلية، وكانت تصطف على رفوفها العالية كتب مصرية بطبعات فريدة وقيّمة ومجلدة تجليداً فنياً يمنحها شكلاً جميلاً بأغلفة سميكة موشّاة بكتابة مذهبة، وكان هذا النوع من التغليف يلائم ظروف سنوات العقود الأولى من القرن الماضي، حين كان على الكتاب أن يكافح من أجل البقاء ويصمد أمام الظروف القاسية التي كانت تتهدده بفعل عوامل الزمن والرطوبة والحرّ والأمطار، وخصوصاً مع تواضع إمكانات جامعي الكتب غالباً، ما كان يؤدي إلى سوء تخزينها ومن ثم تعريضها للتلف.
وكنتُ خلال زيارتي لهذه المكتبة المكتظة بالكتب القديمة، أشاهد رجلاً خمسينياً، عليه علامات الوقار والهدوء، منصرفاً أغلب الوقت في مطالعة كتب قديمة أو مشغولاً بالكتابة في كراسات، وكان قليل الكلام، ولأنني كنت وقتها صبياً، فقد كان يرمقني بنظرات موحية لم أدرك مغزاها في ذلك الحين، وكان دقيقاً ومنظماً في عمله بحيث كان يدوّن في كراريس صغيرة اسم كل كتاب يبيعه وتاريخ البيع، وكان يحرص - قبل أن يُسلّم الزبون كتبه - على ختمها بختم المكتبة (تُطلب من المكتبة الإسلامية لصاحبها عبد الوهاب عباس، البحرين – المنامة ص. ب 44)، وكنتُ أستغرب هذا العمل وأضيق به وأتسائل في سِرّي: كيف يتصرّف صاحب المكتبة في كتاب صار للتو مُلكاً للمشتري؟! لكنها كانت فيما يبدو الطريقة السهلة للدعاية والإعلان، لاسيما وأن زبائن المكتبة - كما عرفت لاحقاً - كثيرون، وكانوا يتقاطرون عليها من الدول الخليجية من مختلف الطبقات الاجتماعية، وفيهم من عِليّة القوم وكبرائهم، وفيهم المثقفون والأدباء والشعراء ومشائخ الدين.
سنوات طويلة مرّت على عهدي بتلك المكتبة لأعرف بعدها أن ذلك الرجل الوادع القابع في مكتب بسيط محشور في الزاوية اليُمنى من المكتبة هو الحاج غلوم، ابن مؤسس المكتبة الحاج عبدالوهاب عباس (ت 1972م) وليس هو عبدالوهاب نفسه كما كنت أعتقد بوحي من نصّ ختم المكتبة التي مَهَرَ بها كل الكتب التي اشتريتها منه خلال سنوات الصبا الأولى، وكان وقتها يعاونه في عمله ولده أحمد، وهذا يعني أن المكتبة تعاقبت على إدارتها ثلاثة أجيال قبل أن تغلق في عام 2011 بعد نحو 75 عاماً من خدمة الثقافة والكتاب في البحرين.
ولكن متى تأسست المكتبة؟ وكيف كانت البداية؟
تأسست المكتبة على يد الحاج عبدالوهاب عباس باقر البيرمي (نسبة إلى قرية"بيرم" موطن أجداده في إيران)، البحراني (نسبة إلى مولده ومسكنه)، وذلك في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت في البداية عبارة عن «بسطة» متواضعة في سوق المنامة، وما لبثت أن توسعت لتتحول بعد سنوات من الكفاح والطموح إلى مكتبة لها شهرتها على مستوى المنطقة لبيع وتوزيع الكتب؛ فلم يكتف الحاج عبدالوهاب بمزاولة نشاطه في البحرين، بل دفعه الطموح للسفر بضعة أسابيع بين حين وآخر إلى دولة قطر لِعَرض بضاعته هناك، ثم بدأ يتوسع في تجارته وينجح في تكوين شبكة من العلاقات الواسعة مكّنته من استيراد أغلب كتبه من الهند ومصر وإيران وتركيا وبيعها في الداخل والخارج، وأصاب في هذه التجارة نجاحاً ملحوظاً، وكان هذا هو الدور الأول للمكتبة.
ولم يكن دخوله ميدان الاتّجار بالكتب بدافع الكسب المادي فحسب، بل كان يُعد هو شخصياً من العلماء والأدباء ومعلمي للقرآن، كما كان جمّاعاً للمخطوطات عارفاً بها ومقدّراً لقيمتها، وكان شاعراً وله ديوانٌ مطبوعٌ باللغة الفارسية. ويبدو أن الميل للشعر والأدب سِمةٌ غلبت على عدد من أفراد هذه الأسرة، فأخوه (الحر بن عباس بن باقر) شاعرٌ أيضاً، وله ديوان مخطوط، وأخبرني الصديق الشيخ إسماعيل الكلداري أنه رأى نسخة مخطوطة من هذا الديوان عند الحاج مختار أحمدي.
ومع وفاة الحاج عبدالوهاب في العام 1972، والذي دُفن في مقبرة وادي السلام في النجف بوصية منه، يبدأ الدور الثاني للمكتبة، حيث خلفه في إدارة شئونها ولده الأكبر الحاج غلوم الذي واكب مسيرة والده في عالم الكتب، وكان يحتفظ بذات الحماس والحب للثقافة والمعرفة، ومعه دخلت المكتبة مرحلة الطباعة والنشر إلى جانب ما شهدته من توسع كبير في نشاطها في استيراد وتوزيع الكتب وبيعها، وإمداد المكتبات المحلية بما تحتاجه من كتب في مختلف حقول المعرفة.
انتقلت المكتبة في نهاية ستينات القرن الماضي قبيل وفاة المؤسس من مجرد "بسطة" متواضعة تعرض بضعة عناوين من الكتب إلى مكتبة تزاول نشاطاً تجارياً رسمياً، حيث تم استئجار دكان من طابقين في سوق المنامة بالقرب من سوق الجص والتمور سابقاً (سوق التتن حالياً)، بينما كانت لها عِدّة مخازن في المحرق.
ودفع حرص الحاج غلوم على الكتب وحبه لها أن تعلّم تجليدها على الطريقة المصرية حتى أتقنها بمهارة، وكانت بحوزته ماكنة لتجليد الكتب في بيته، وقد دَرّس في مدرسة الهداية الخليفية الطلبة فن تجليد الكتب لفصل دراسي واحد.
وقد نشرت المكتبة الإسلامية في دورها الثاني نحو ثلاثين إصداراً باللغتين الفارسية والعربية، منها على سبيل المثال: "عقائد الإمامية" للسيد إبراهيم الزنجاني، وديوان "العاشقين" لعبدالوهاب عباس (المؤسس)، و"توضيح المسائل" للسيد الخوئي (بالفارسية)، و"مولود أنوري" للسادة الشافعية (فارسي)، و"الأحراز المجربة" لعبدالمهدي مطر، و"ديوان الحاجري"، و"تلقين الصبيان"، وغيرها. وقد مكّنت صلات الحاج غلوم بالمثقفين وأهل العلم في الخليج من طباعة بعض الكتب وخصوصاً بعض الإصدارات لمؤلفين من أهل عمان.
وكان مرتادو المكتبة - حتى تسعينات القرن الماضي - بالكاد يستطيعون التحرك في ممراتها الضيقة بين غابة من الكتب المكدسة بغير ترتيب، وكانت تضم كتباً ذات طبعات فائقة القيمة من الناحيتين العلمية والتاريخية، مما جعلها قِبلةً لأهل العلم ومقصداً لأهل الأدب من كل مكان.
ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن المؤسس الحاج عبدالوهاب كان لديه اهتمامٌ بالغ بالمخطوطات، وربما تاجر بها، وقد عَدّ علي أبو حسين مكتبة الحاج عبدالوهاب في الجزء الأول من كتابه "فهرس مخطوطات البحرين" من المكتبات الخطّية، وذكر من مقتنياتها سبع مخطوطات هي: "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" أو "تفسير البيضاوي"، وكتاب في الحديث، و"الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية" للعاملي عن نسخة المؤلف، و"مفتاح الأصول" لحافظ الدين النسفي، و"حاشية الإرشاد" لعلي عبدالعالي، و"البهجة المرضية في شرح الألفية" للسيوطي، و"شرح الأنموذج في النحو" لمحمد بن عبدالغني الأردبيلي.
وفي السنوات الأخيرة، مُنيت المكتبة بانتكاسة بسبب التنافس الكبير في تجارة الكتب بين المكتبات التجارية الكبرى، والصعوبات التي يعاني منها أصحاب المكتبات لارتفاع كُلفة الشحن وتضييق الخناق على المكتبات بفعل التشدّد في الرقابة على المصنفات والإجراءات البيروقراطية المعقدة والطويلة لدخول الكتب، ناهيك عن كبر سن الحاج غلوم وعدم قدرته على مزاولة نشاطه بالحماس والكفاءة التي كان يتمتع بها في الماضي. كل ذلك تسبب في إضعاف نشاط المكتبة، وساهم التدهور الذي أعقب حوادث العام 2011 في وضع نهاية مؤلمة لنشاط المكتبة، حيث عانت من بعض المتاعب التي أدّت في نهاية المطاف إلى إلغاء سجلها التجاري، وربما كان لهذه الحوادث المؤسفة دور في التعجيل بوفاة الحاج غلوم في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 (10 ذو الحجة 1434هـ)، ليدفن في مقبرة المحرق بعد مسيرة طويلة ورفقة غنية مع الكتاب ونشر المعرفة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5302 - الإثنين 13 مارس 2017م الموافق 14 جمادى الآخرة 1438هـ
اشكرك عزيزي وسام السبع على نشرك هذه المقالة عن المكتبة الاسلامية... فانا من مرتادي هذه المكتبة.. بل اكثر من ذلك الحاج احمد صديق عزيز .. كان خدوما ...بارك الله فيه كنت اساله عن عنون كتاب فاتيني به بعد يوم او يومين...!! رحم الله المؤسس وابنه غلوم .
المكتبة الاسلامية من اقدم المكتبات في البحرين وكنت تجد فيها صحيح البخاري بجنب نهج البلاغة وتجد الزوار من كل الاطيفاف
رحمة الله عليه كان رجل الثقافه واول ما تدخل عليه المكتبه وتساله عن اسم الكتاب يقوم باحضاره بنفسه وكان يردد يالله يالله يالله يا حافظ يا حفيظ يا الله وهذا حرز لخديجه ام المؤمنين عليها السلام
مقال شيق جدا .. أول مرة إسمه بهذي المكتبة
لمن يسأل عن مصير المكتبة
كثرة الالتزامات المالية وتم الغاء السجل التجاري فاضطر اصحاب المكتبة الى بيع الكتب بأسعار رمزية كدينار للمجلد الواحد
مقال يشكر عليه ... تاريخ لم ندركه ولعل الكثير من العائله لم يعلم حيثياته
رحم الله الشيخ عبدالوهاب الكاشي فقد كان يحضر البحرين في الستينيات لإلقاء المحاضرات في شهر رمضان المبارك في وعام ١٩٦٧ لاحظ خلو المآتم من الكتب فطلب بانشاء مكتبة في مأتم حسن محمود فقام الشيخ عبدالحسين خلف والشيخ احمد طاهر وعبدالشهيد العماني بوضع اللبنات الأولى لمكتبات المآتم وتنوير الشباب
اضافة قيمة.. شكرا لك
رحم الله الحاج عباس والحاج غلوم والحاج كريم وجميع اصحاب المكتبات الذين تحملوا عبئ تلك المرحلة وقد عاصرت الكثير منهم منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات ...
تحياتي للاخ وسام الحين ماذا حل بالكتب والمخطوطات فنهاية القصه تركتها غامضه الا من سبيل للحصول على ما تبقى من ارث حضاري
مقال رائع
نشكر الكاتب على الجهود المباركة ..
ممتن لكم ولاهتمامكم
اشكر أخي وسام على هذه المقالة وبارك اللله فيك ولقد كنت بنفسي بين فترة وفترة أذهب مع عمي غلوم رحمه الله الى المكتبة وابحث عن كل ما هو نادر وقيم فكلما ابحث أجد نفسي في مكتبة لا تقدر بثمن رحمك الله عمي غلوم عبد الوهاب وجزاك اللله خيرا الجزاء لما كتبت .
شكرا جزيلا اخي الكاتب وفقت فيما اخترت وكتبت
احد افراد العائلة
بوركت على هذا المقال
يا ليت المكتبة قائة حتى يومنا هذا لأطلع عليها ، لا أعلم لماذا تدفن وتطمس الكتب وهي أساس في رقي وحضارة الأوطان والشعوب.
شيئ محزن ومؤسف ما حل بالمكتبات والكتب. اتذكر عندما كنت صغير انني كنت انفق كل ما اجمعه من مال على شراء الكتب بجميع انواعها. الان أصبحنا امة لا تقرأ. ولا تقدر الثقافة
الله يرحم الحاج غلوم
و كانت المكتبة تحتوي على عشرات النسخ النادرة
وحسب تحليلي المتواضع ربما يكون سبب تراجع المكتبة في السنوات الاخيرة هي وجود مكتبات منافسة والسبب الاخر هو قلة الكتب الجديدة الموجودة لدى المكتبة
كلام جميل
تعجبني ما تكتب كثيرا ولا أعلم كيف أشكرك
هذا من ذوقك ياصديقي.. شكرا لاهتمامك وحبك