الحملة التي نظمها أنصار «إسرائيل» في الكونغرس الأميركي ومختلف الهيئات المدنية وصولا إلى ادارة البيت الابيض ضد المسلسل التلفزيوني «فارس بلا جواد» وصلت إلى حد لم تصله مثل هذه الحملات من قبل.
واذا صح الكلام عن تدخلات مباشرة قام بها السفراء الاميركيون في العالم العربي، واتصالات أجراها المستشارون الاميركيون في وزارة الخارجية، إضافة إلى الوزير نفسه، لمنع عرض المسلسل أو قطع بعض مشاهده او تغيير فترة عرضه من البرامج النهارية إلى ما بعد منتصف الليل تكون الحملة وصلت إلى نقطة خطيرة وهي استخدام العلاقات السياسية المميزة بين تل ابيب وواشنطن في أمور ثقافية أو أقل من ثقافية تتناول مسائل تمس وجهات نظر معينة في الموضوع الفلسطيني وهو جوهر الصراع العربي الاسرائيلي. فالمسألة لم تعد تقتصر على السياسي بل انها امتدت لتطاول الجانب الثقافي (التأريخي) لموضوع لم تكتمل مشاهده وتصل الامور فيه إلى نهايته.
الغريب في الموضوع، ان «اسرائيل» لا تكتفي بالاعتراض على المسلسل وما ورد فيه من مشاهد ترى انها تمس صورتها وسمعتها بل هي تدفع بعض المنظمات الاهلية في اميركا إلى الضغط على ادارة واشنطن للضغط على مصر وتهديدها بقطع المساعدات عنها اذا لم تتجاوب حكومتها مع الاعتراضات الاسرائيلية. اي ان «اسرائيل» ترهن او تربط العلاقات المصرية- الاميركية بمسلسل تلفزيوني كان سيمر، كغيره من المسلسلات، من دون تعليقات أو اثر يذكر لو تم تجاهله.
التهديد بقطع المساعدات (المالية - الاقتصادية) ليس جديدا بل تحول إلى نوع من الابتزاز السنوي وبات يستخدم في مختلف المناسبات واحيانا من دون مبرر.
فمثلا هددت مصر بقطع المساعدات في موضوع سعد الدين ابراهيم ورفعت شعارات معادية للحكومة إذا لم تتراجع المحكمة الدستورية عن قرار سجن ابراهيم الذي اتهم بقبض معونات مالية من جهات اجنبية للنيل من سمعة بلاده وتحريك حساسيات تطاول الامن القومي مثل موضوع الأقباط وأهالي منطقة النوبة.
قبل ابراهيم استخدم سلاح المساعدات في موضوع «مقبرة يهودية» في منطقة الجيزة، وقبلها اجبر محافظ القاهرة على تغيير مسار طريق التفافي يسهل على السيارات عبور العاصمة من جهة الاهرامات لان خط الطريق كان سيمر في مقبرة يهودية تعود إلى مئات السنين. فتدخلت منظمات البيئة وهددت بقطع المساعدات بذريعة ان السيارات التي ستعبر الطريق تهدد الآثار بالتلوث وتعطل امكانات المحافظة على التراث المصري الذي يعود إلى أيام الفراعنة.
الان تعود نغمة التهديد بقطع المساعدات اذا لم تتدخل الحكومة في شأن مسلسل تلفزيوني وهذا أمر مهين ليس لمصر فقط بل للولايات المتحدة التي تستخدم مساعداتها للضغط على دول تتمتع بسيادة وتتميز بدور استراتيجي وموقع جغرافي - سياسي مهم في منطقة «الشرق الاوسط» والمشرق العربي ووادي النيل. اميركا من جهة ترفض استخدام الاقتصاد في الشئون السياسية ومن جهة اخرى تستخدم سلاح المعونات كقوة سياسية تدخلية في مسائل بسيطة يمكن حلها بوسائل اكثر تقدما وعن طريق المحاكم. الا ان «اسرائيل» تقصد من وراء حملاتها على مصر ليس تذكيرها بالمساعدات وانما محاولة اهانتها امام الرأي العام العربي واذلال الدولة امام شعبها. والاهانة والاذلال يسهمان في ثني مصر عن بعض المواقف وارباك حكومتها في سياسات معينة لا تريد «اسرائيل» تدخل مصر فيها.
سلاح المساعدات تحول في الفترة الأخيرة الى اكثر من وسيلة للضغط. انه سلاح يستخدم في الكثير من الاوجه: الاقتصاد، الثقافة، شق الطرقات، قرارات المحكمة... واخيرا مسلسلات التلفزيون. فالمقصود من التذكير بالمساعدات في مناسبة أو من دونها، اضافة الى الاذلال، تحويل المساعدات الى نوع من الحاجة النفسية التي لا يستغنى عنها وكأنها مثل الماء والهواء. وعندما تتحول المساعدات الى حاجة نفسية تصبح مع الايام مثل التسول الذي لا يسمن ولا يغني بل يذل الانسان حين يتحول إلى نمط للعيش والارتزاق. فالمساعدات تحولت الان إلى ما يشبه المسلسل التلفزيوني. ما ان تنتهي حلقة حتى تبدأ أخرى.
الحملة الاميركية ضد المسلسل التلفزيوني المقصود منها مصر وموقعها الجغرافي والدولة ودورها التاريخي. وهي لا تريد من الحملة وقف المساعدات التي تزيد قليلا على نصف المساعدات وقروض الدعم الاميركية لاسرائيل بل تذكير حكومة القاهرة بها لتعطيل احتمالات قيامها بدور ما في قضايا حساسة في المنطقة. فإسرائيل (4 ملايين نسمة) تنال ضعف المساعدات التي تحصل عليها مصر (60 مليون نسمة) ومع ذلك فهي تذكّر الولايات المتحدة بأن المبالغ قليلة وهي لاتساوي نصف قيمة الخدمات التي تقدمها تل ابيب لواشنطن؟
المطلوب من الحكومة المصرية ليس المغامرة بل الرد على الولايات المتحدة بلغة المصالح والارقام. أميركا بحاجة إلى مصر أكثر من حاجة مصر لأميركا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ