يقع تصنيفها كمطربة «النخبة»، فهي لا تغني في أيّ مكان، ولكنها تحترم جمهورها أينما كان، وهي سفيرة السياحة التونسية؛ فبأغانيها يتعرّف القاصي والداني على الأغنية التونسية الأصيلة، وهي إلى ذلك الأكاديمية الجامعية مزجت في اختصاصاتها بين القانوني والموسيقي. وحين دُعِيت إلى المشاركة في الحكومة التونسية على رأس وزارة الثقافة عام 2016 استجابت لنداء الواجب وخاضت التجربة بمشروع ثقافي متكامل لأنها فنانة ومثقفة تونسية تحمل رسالة عظيمة ورثتها عن بناة الجمهورية الأولى. تلك هي سنيا مبارك ضيفتنا على صفحات الوسط... وفيما يلي نص اللقاء مع الفنانة سونيا مبارك:

سبق لكم أن زرتم مملكة البحرين سابقاً وأمتعتم جمهوركم العربي العريض بعرض فني طربي رائع، واليوم تعاودين الزيارة؛ ففي أي إطار تتنزل زيارتكم هذه؟

- شكرا لكم، تأتي زيارتي لمملكة البحرين هذه الأيام تلبية لدعوة أتشرف بها من رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وذلك ضمن الموسم الثقافي «المجازفة جزء من النجاة» لمركز الشيخ إبراهيم للثفافة والبحوث؛ حيث أنّي من المهتمين بدور الثقافة والفنون في التقريب بين الشعوب عبر حوار حضاري وثقافي وتتمثّل مساهمتي في مداخلة بالمركز تمهد للنقاش في مسألة ذات أهمية قصوى ألا وهي دور الموسيقى في التقريب بين أبناء الشعب الواحد على المستوى المحلي ودورها أيضاً في التقريب بين الشعوب في العالم.

السيرة الذاتية لسنيا مبارك لا يمكن أن ينفصل فيها الفني عن العلمي الأكاديمي، فقد ترافق تألقك الفني مع نجاحاتك الدراسية، فماذا لو تختارين لنا شذرات من سيرتك تمثل أهم المحطات الفنية والعلميّة لسنيا مبارك.

- منذ البدايات سلكت طريق العلم والفنّ معاً؛ فقد قطعت مشواري العلمي بصبر وثبات حتى أدركت النجاح ونلت الإجازة في الحقوق (قانون العام) ثم شهادة الدراسات المعمقة (ماجيستير) موضوعها تحليل نظرية صامويل هنتنجتون (صراع الحضارات) ونقدها؛ إذْ لست من مناصري هذه النظرية ولا نقبل اليوم أن تكون علاقة الإنسان بالإنسان مبنية على الصراع، وإن كانت هذه النظرية تعود اليوم وبحدّة، وأنا كتونسيّة من بلاد السلام وأرض السلام أرفض أن تكون العلاقة بين الناس والحضارات علاقة صراع وإقصاء للآخر وتاريخنا يشهد على تعايشنا.

وهل اكتفيت بهذا في مسيرتك العلمية؟

- كلا وإنما ترافقت دراساتي القانونية مع دراسة الموسيقى حتى تخرجت سنة 1986 من المعهد العالي للموسيقى اختصاص موسيقى عربية، وتخصصت في تعليم تقنيات الغناء العربي والأندلسي. ثمّ دَرَّسْتُ في الجامعة حقوق التأليف والتصرف في المشاريع والعقود الفنية، وسوف أناقش بعد أسابيع قليلة أطروحة الدكتوراه عن مكانة الموسيقيّ في تونس من خلال تحليل السياسات الثقافية في الجمهورية الأولى.

ماذا تمثل الموسيقى بالنسبة إليك؟

- لقد استثمرت موهبتي وطاقاتي الفنية لأكون سفيرة للأغنية التونسية والأندلسية حيث قدمت عشرات العروض في أكبر المسارح والمراكز الثقافية ومع الأمم المتحدة؛ إذْ إني حرصت على تقديم بلدي وهويّتي عبر الحوار مع الآخر بالموسيقى والفن وذلك في كبرى العواصم العالمية ذلك أنّ الموسيقى هي ثقافة، هوية، تاريخ... لذا أعتبر الموسيقى سلاحي السلمي أعتزّ به وأجوب به العالم والحمد لله حققت نجاحات عديدة مثل حصولي على الديابازون الذهبي عن ألبوم «تخت» إلى جانب جوائز عديدة أخرى.

من التألّق في الغناء إلى التفوّق الدراسيّ في مجال الحقوق إلى إدارة المهرجانات ثم وزارة الثقافة: هل يستطيع كل مبدع أن يعانق مثل هذه النجاحات؟ ما السرّ في هذا التفوق؟

- أتمنى أن أكون فعلاً متفوقة، وإذا كان وراء ذلك سرّ فالسر تعدد الاختصاصات مما يعطي بعد نظر ويفتح آفاقاً في فهم الأشياء من زوايا متعددة. ودراستي الجامعية في العلوم القانونية والسايسية والموسيقية أفادتني كثيراً عندما تسلمت الحقيبة الوزارية. إنه لا تباعد في شخصيتي بين الاثنين الفن والقانون بل هو التكامل وانصهار، ومن أسباب تفوقي اقتناعي بأن عندي رسالة؛ فأنا كامرأة تونسية معتزة بهويتي التونسية العربية الإفريقية مقتنعة أن لا أكون مجرد إنسان عابر بل أن يكون لي أثر وأن أشارك في المشهد الثقافي والموسيقي. وتونس اليوم في مرحلة تأسيس وهي في حاجة إلى أبنائها وبناتها ولذلك قبلت بمنصب الوزارة وهو واجب وتكليف وطني، لاتشريف لي، أعتز بالقيام به.

أن تكون على رأس وزارة، ووزارة الثقافة والمحافظة على التراث بالذات في تونس، فليس ذلك بالأمر السهل، وخصوصاً أنّ المشهد الثقافي التونسي منذ سنوات يشهد تقلبات واصطفافاً وتجاذباً، فكيف تقيّم الفنانة سونيا مبارك تجربة المنصب السياسيّ على رأس وزارة الثقافة؟ هل تعتبر نفسها قد نجحت في مهمّتها؟

- النجاح في هذا الخضمّ لا بد أن يتأسس على مشروع وقد دخلت الوزارة بمشروع يتأسس على ثلاث أولويات: أولاها وضع إطار قانوني لكل المهن الفنية؛ فقد ارتبطت الثقافة بالدولة في تونس منذ الاستقلال باعتبار أن الثقافة والتعليم من ركائز التنمية التي نادى بها الرعيل الأول؛ فقد اعتبر الشاذلي القليبي أول وزير للثقافة أنّ الرهان في تلك المرحلة ثقافي بامتياز، ثم من بعده جاء محمود المسعدي وتحدّث عن كيفية إدخال الثقافة والتعليم داخل البناء التنموي لذلك تم تركيز بنية تحتية للثقافة؛ إذْ في تونس أكثر من 450 مكتبة و220 دار ثقافة و350 مهرجان تحت رعاية الدولة. لكن العشرية الأخيرة شهدت تراجعاً لأسباب عديد ولم يقع تحديث القوانين لذا عملنا على إرساء قانون للمبدع والمهن الفنية.

وثانيها اللامركزية الثقافية من خلال تمويل الجهات الداخلية وتوفير الموارد البشرية، وثالثها صيانة المواقع الأثرية فهناك 40000 موقع أثري نستغل فقط منها 4000 وتجرى فيها أعمال صيانة وقد دخلنا في شراكات مع متحف «هايدن» في هولندا وكذلك مع اللوفر وبعض المعاهد المختصة في صيانة الآثار. ولا يخفى على أحد أنّ تراثنا المادي واللامادي فريد مثل الفسيفساء. كما عملنا على تنشيط السياحة الثقافية من خلال المتاحف فالناس يذهبون إلى طوكيو أو نيويورك لزيارة متحف فنان محدد، وقد سعيت إلى النسج على هذا النموذج. ومع اليونسكو قمنا بتحديث مواقعنا الأثرية إذ لدينا 8 مواقع مسجلة في التراث المادي ونحن بذلك في المرتبة الأولى إفريقياً، ونسعى إلى تسجيل التراث اللامادي أيضاً. كما أعتز بإعادة الروح في مشروع مدينة الثقافة الذي توقف 2011 وبمناسبة مروري بوزارة الثقافة رجعت الحياة إلى هذا المشروع منذ مارس/ آذار 2016 وسيتم افتتاح هذه المدينة في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 وفيها 3 مسارح أوبيرا، متحف للفنون المعاصرة، دار الفنانين، مكتبات ثقافية ضخمة... كما أعتزّ بوضع كتاب «اسمي باردو» وآخر عن «الحبيب بورقيبة» خلال العام 2016، وقد أرجعنا مجلة «فنون» النقدية إلى الحياة لتساهم في ازدهار القراءات النقدية، واستند كل هذا العمل إلى مبدأ التشاركية المستمد من الدستور؛ فكل المشاريع والسياسات تقوم على التشارك مع المهتمين بالشأن الثقافي والقطاع الخاص والدولة. وأودّ أن أشير هنا أنّ وزارة الثقافة هي مشروع تنموي وليست مجرد وزارة للترفيه، بل دورها وضع السياسة الثقافية للبلاد والمساهمة في البناء والتنمية.

ارتبطت فترة وزارتك بانطلاق أكبر فعالية ثقافية بتونس ألا وهي (صفاقس عاصمة للثقافة العربية) فكيف تقيمين هذه التظاهرة؟

- من أهداف هذه التظاهرة الكبرى تحسين البنية الثقافية لمدينة صفاقس؛ فقد كان حلمي أن يقع تسجيل صفاقس ضمن المدن الأثرية في العالم لما تتوفر عليه من معالم أثرية فريدة. ولقد أبدت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وكذلك وكيلة وزير الثقافة الإمارتي ووزير الثقافة السوداني والفلسطيني وبقية الحاضرين في حفل الافتتاح إعجابهم بهذا الجهود وأنا أومن بأن الثقافة تكون خارج الأسوار لذا عملت على تطوير هذه الفكرة فكان الافتتاح في الميادين العامة خارج الأسوار حضر قرابة 200000 حفل الافتتاح وقد نقل الضيوف صورة انبهار إلى دولهم. وهنا أؤكد على دور القطاع الخاص في الرعاية الثقافية وعليه لا بد أن يساهم رجال الأعمال في تفعيل الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص للاستثمار في الثقافة لما لها من بعد مادي وبعد معنوي.

وماذا عن العلاقات الثقافية مع مملكة البحرين وخصوصاً أن رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، لا تفتأ تبذل جهوداً عظيمة في تنويع المشهد الثقافي في البحرين، وكيف يمكن برأيكم تطوير هذه العلاقات الثقافية بين البلدين؟

- علاقاتنا الثقافية بمملكة البحرين قديمة متجددة ونسعى دائماً إلى تطويرها، وقد سعدنا بزيارة الشيخة مي لتونس لما كنت على رأس وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بمناسبة افتتاح (صفاقس عاصمة للثقافة العربيّة)، وقد عبّرت عن سعادتها بالتعاون الثقافي مع تونس خاصة لما لمسته فينا من قناعة بضرورة أن نشتغل أكثر على مختلف الفنون (غناء، رسم، رقص، سينما، نحت...) ولعلّه من مصلحتنا جميعاً كعرب التنسيق في العمل الثقافي؛ وذلك بتوأمة بعض المهرجانات، وقد تحدثنا في هذا كثيراً وستثمر هذه المباحثات برامج وشراكات عديدة بإذن الله.

للفنانة سنيا مبارك لون فني خاصّ استطاعت أن تشق به الطريق وتصل إلى القمة رغم المنافسة الشرسة لألوان أخرى من الغناء والإغراءات المادية التي توفّرها بعض القنوات والمنتجين. فما الصعوبات التي يمكن أن يتعرّض لها مثل هذا النهج الغنائي وكيف استطاعت سنيا مبارك الثبات على نهجها الطربي؟

- الثبات على النهج مبني على اختيار منذ الانطلاق، وأنا أعتبر أني جئت للفن لأني أؤمن بدور الفن والموسيقى بالذات لصقل الشخصية والمساهمة في تطوير الفن. وارتباطي بالفن روحي قبل أن يكون مادياً ومنذ البوماتي الأولى (حرية 1992) ، (يا دروب الحياة)، (ما أحلى الشباب) كنت أغني وأنا أحمل رسالة الحب والتسامح والسلام. ثم جات تجربة ألبوم «تخت» 1999 الحاصل على الديابازون الذهبي في أوروبا ثم ألبوم «توشيح» المخصص للموشحات والطبوع التونسية. ثم كانت «رحلة في المتوسط» بالاشتغال على شعراء من المتوسط وقد قدمته في قرطاج ومسقط وأوروبا وهنا في المنامة سنة 2006 وقد غنيته بلغات عديدة. ثم جاءت تجربة جديدة مع ألبوم (وجد1) 2004 ثم (وجد2) في 2010 وهي مرحلة روحية صوفية وقد شهد رواجاً كبيراً داخل تونس (أكثر من 50 عرضاً في سنة واحدة) وخارجها و(وجد3) بصدد الإعداد وسوف يأخذ بعداً عالمياً. هذه الإنتاجات الفنية الموسيقية استندت إلى قناعاتي بأنّ الفن شكل من أشكال الثقافة وأنهما (الفن والثقافة) سلاح لمقاومة التيارات التي تريد اليوم إخراجنا من التاريخ فبالثقافة نحاربهم لأنّ الإنسانية بلا ثقافة وموسيقى تعني الوحشية.

تعتبر سونيا مبارك أن الموسيقى يمكن أن تكون وسيلة للتقارب بين الشعوب فكيف ذلك؟

- هناك إجماع على دور الموسيقى في تهذيب الذوق وصقل الشخصية فضلاً عن التقريب بين الشعوب فالموسيقى لا حدود لها ولا لغة لها وقد كانت تجربتنا مع الأطفال الأميركيين طريفة في أداء وصلات من الموشحات الأندلسية. وهناك جهود عالمية كالتي تشرف عليها «اليونسكو» فقد ساندت السياسات الثقافية للدول النامية، كما عاينت الحراك الثقافي لدول مجلس التعاون الخليجي حيث تتحقق إنجازات نهضة ثقافية كالتي نشهدها في الكويت والإمارات وقطر والبحرين حيث تعمل الشيخة مي عملاً عظيماً تجلى في أكثر من صورة (المسرح الوطني، طريق اللؤلؤ...) وأنا معجبة بها فهي شخصية وازنة في الخليج والعالم العربي.

هل أن سونيا مبارك متفائلة بالمشهد الفني والثقافي العربي؟

- فيه نقائص عديدة رغم ما تحقق من إنجازات ولعل أشد ما يؤلمني أن يقف الفنان في صفوف المطارات لأخذ تأشيرة الدخول، وأنا أدعو كما قلت لك في بروكسيل سابقاً لا بد من (فيزا فنان) تسمح له بأن يجول العالم ويقدم فنه ويستفيد من غيره في إطار من الحوار والتقارب الفني بين الفنانين.

وأخيراً ماذا تقول الفنانة والوزيرة سونيا مبارك لجمهورها من أهل البحرين والخليج عموماً؟

- أشكركم على الاستضافة، وأعبر بالمناسبة عن سعادتي بوجودي في المنامة التي أتوقع أن تصبح قطباً ثقافياً وازناً نظراً لهذه الجهود وهذا الوعي بأهمية الفنون لتحقيق التوازن في شخصية الإنسان. وأخيراً، إن الفن رسالة والعمل الثقافي هو التزام بأداء هذه الرسالة حباً في الوطن وغيرة عليه.