برزت الشاعرة العُمانية عائشة السيفي مُذ كانت طالبة في جامعة قابوس، صوتاً قادماً بقوة، وإن ظل في بداياته محافظاً على البناء التقليدي للقصيدة إلا أن ذلك الصوت لم يتورط بقاموسها ومضامينها المكرورة؛ انتقالاً إلى قصيدة التفعيلة التي وضعتْها ضمن الأسماء والأصوات المهمة في عُمان ومنطقة الخليج العربي.
في مجموعتها الأولى «البحر يبدِّل قمصانه» التي صدرت العام 2014، عن «رياض الريّس للكتب والنشر»، بالتعاون مع البرنامج الوطني لدعم الكتاب في سلطنة عمان، والتي صمّم غلافها الفنان محسن المبارك، نقف على مساحة تكاد لا تبين من ذلك البناء التقليدي، إلا أن الغالب في المجموعة طاقة مفتوحة على توليد المعاني والاشتقاق اللغوي، مع غنائية لم تتخلَ عنها السيفي، تلك المرتبطة بالإيقاع الخارجي، وتقدّم من خلال المجموعة صوتاً يتاخم مساحات صوفية في الغالب من النصوص، إلا أنها لم تربك النص في حمولاته وتوليداته.
ظلت السيفي محافظة ووفية - على الأقل ضمن النصوص التي تشارك فيها من خلال الأمسيات، أو تلك التي يتم نشرها في الصحافة العمانية - حدّ التعصب ربما لشعر التفعيلة، مع ظهور متقطع لعمود الشعر، لكن ما يلاحظ في هذا الصدد أن ثمة أناقة في المفردة، وجرياناً يكاد لا ينقطع للصور في تدافعها، مع الحرص على العودة إلى ما يضع القارئ أمام ثنائية الإيقاع الداخلي والخارجي للمفردة والنص عموماً.
محاولة التماهي مع حالات صوفية، أو اجتراحها تعود إلى أعمال كثير من الأصوات الشبابية العربية، وتكاد تتحول إلى ما يشبه الظاهرة أو «الموجة» إذا صح التعبير، إلا أن الوفاء لتلك التجربة بكل حالاتها يكاد يكون غائماً أو غير واثق من إمكانية الحديث عن تبلور مشروع متكامل، واضح المعالم، من دون أن يكون صدى لأصوات سبقت، أو من دون أن تكون مرتهنة لنماذج ظلت مكرّسة في التجربة الشعرية العربية، دون أن يتمخَّض عنها نموذج مستقل طالع من طبيعة التناقض مع هذا العصر بكل ماديته المستفزة، وبكل تغييبه للأفق والفضاء الروحي، أو ما تبقَّى منه.
علينا أن ننوّه هنا إلى أن الشاعرة السيفي أصدرت مجموعتها الثانية «أحلام البنت العاشرة»، عن دار رياض الريّس نفسها، ولم تكن بمنأى عن احتشاد كثير من نصوصها بأكثر من سؤال كوني وجودي، في الوقت الذي لا ينفصل فيه السؤال الكوني... الوجودي عن سؤال الذات، ذلك الذي يمثِّل نافذة على العالم، والعكس صحيح.
فضاء الإشارات... الرموز
لا ينفصل السؤال المرتبط بالكون... الإنسان... الزمن بالضرورة عن كثير من النصوص التي تخرج إلى القارئ شاهرة طزاجتها، وملوِّحة له بالعناء الذي ينتظره. ليس عناء القراءة، كونها متعة، بل عناء أن يكون على ارتباط وثيق مع تلك الومضات التي سرعان ما تتلاشي - أو كما يبدو - ليتولّد عنها ما يشبه ارتطام النيازك في حيِّزه، حيث الضوء وما يقترب من الفناء في الوقت نفسه!
وتتجلَّى في عدد من النصوص توظيفها للنص القرآني، أو بعض رموز وإشارات، ومحاولة اقتراب منها، بينما في نصوص أخرى يمكن تجلِّي تمثُّل السيفي لبعض حالات من الإشراق، ومحاولة التماهي معها، سواء بإعادة توظيف تلك الإشارات والرموز، أو محاولة إيجاد توظيفها إشاراتها ورموزها الخاصة، وإن بدت أقل حضوراً في المجموعة.
في نص «ما يشبه حزناً مريمياً» نقرأ
«فهزّي إليَّ بجذع القصيدة...
هزّيه... هزّيه أكثر من ثورة الريح
هزّيه أعمق من غضب الموج
هزّيه
واستعملي مريميّتك الأم كي يبعث الله
في الجسد البكر شعراً نبيّاً...».
لغة يمكن القول بأنها تأتي بكل ما تيسَّر من عفويتها واندلاقها... كأنْ لا سطوة للسيفي عليها بتلك الانزياحات، والصور الموَّارة، والتوظيف الذي تجنَّب - ببراعة - ورطة تعد مُفسدة للكثير من النصوص، ألا وهي: الإقحام. الشعر ألَّا يأتي مدفوعاً بجهة... ألا يكون مرتهناً لجهة كي يسفر عن صوره وإدهاشه وجمالياته.
تنجح السيفي بشكل لافت في مثل ذلك التوظيف، مع قدرة على المحافظة على بنائية النص، محاطة بنظام إيقاعي لا ينفلت إلا يسيراً بحكم الضرورة: ضرورة القافية التي لم تتخلَ عنها أيضاً. وهو انفلات لا يعني اضطراباً ينتاب بنية الإيقاع وشروطه.
حتى في نص «عن صديق ضلوعه الطريق»، لا تنفصل السيفي عن ذلك المسار، وإن جاء التوظيف بدرجة أقل، وهذه المرة بالتمسّك بإشارات أكثر من التمسك بفضاء قرآني مألوف لدينا، ومحدد الصورة، كما حدث في النص السابق الذي تحضر فيه «سورة مريم»؛ حيث نقف على تنويعة من تلك الإشارات والرموز، توجد توظيفها المفتوح على الفضاء القرآني، في تنقلات وتواتر تلك الإشارات والرموز.
«والحقيقة عيناك يا صاحبي
والغياب/ يداك
ورائحة الحب فيك/ الصدى
وضلوعك أرصفتي والطريق
سلْهُ - كالمستجير برمضائه -:
كيف يترك موسى عصاه؟
ونوح سفينته؟
ويفر المسيح بصلبانه
ويجف على الفم... هذا النبيذ العتيقُ»؟
في تناسل المنافي... النسيان
حالة الاغتراب الماثلة - عربياً - تكاد تكون مهيمنة على النص الشعري ضمن تجلياته وتحولاته الجديدة، ولعل ما تراكم من ذلك النص منذ مطلع الألفية الثالثة، يضعنا أمام حقيقة أن الاشتغال على موضوعة المنفى/ الاغتراب/ النسيان، وخصوصاً الأول، يكاد يكون سمة المشاريع الشبابية التي وجدت لها حضوراً مقبولاً ومبشِّراً في كثير من العواصم والمدن العربية. بعض المشاريع تلك كان عابراً... مؤقتاً... كأنه حضر ليعبِّر عن حالة اغترابه ثم يتوارى كي يكون هو نفسه موضوعاً للنسيان.
هل تتورط السيفي في المجموعة التي بين أيدينا بمثل تلك المشاريع؟ بمثل تلك البكائية التي حملت عنوان نصها؟ «بكائية أخيرة لمنفى من نسيان»، والتي نقرأ فيها: «خذ شهقة الناي واترك لنا الشعراء
خذ الوحي واترك لنا الأنبياء
خذ الريح واترك لنا الصلوات القديمة
واترك لنا ما يريد النبي الأخير من الوحي
واترك لنا التيه في جسد الرمل
لا شيء يمنحنا وجهة نحو أرضك
إلا كمان من الموت عبّأ أوتاره واكتفى»...
المجموعة، وفي مساحات كبيرة منها لم تتعدَّ المساحات الصوفية التي لم تنل من قدرة السيفي في الاشتغال على أكثر من ثيمة مزجتها... عل من بينها المنفى الذي حضر في أكثر من صورة، وفي أكثر من توظيف، وأحياناً من خلال مؤدَّيات إليه. المنفى هو نفسه الذي لا يجده الصوفي كذلك، بقدر ما يجده هياماً وتوحّداً، وإيغالاً في البحث عمَّا يظن أي منا أنه ممسك به أو بين يديه.