كان من حسن الحظ أن رافقت أمي في مختلف زياراتها إلى استشاريي وجراحيي العظام، ولعل ذلك أيضاً مرتبط بصميم عملي؛ إذ إن معظم أوقاتي في علاج المرضى تنصَّب بشكل أكثر على تشخيص وعلاج الحالات المتعلقة بالعظام، وأرى أنه من الجيد أن أفتتح هذا المقال بقضية عايشتها ضمن زياراتنا. طرقنا الباب بعد أن سمعنا النداء من قبل الطبيب، وبعد تحية موجزة من الطرفين... رفع الاستشاري صورة من أشعة الرنين المغناطيسي (وكان وقتها لم يستخدم النظام الإلكتروني بعد) ونظر نظرة خاطفة في وجه أمي واستدرك قائلاً: «امممم... حجية عندش ديسك... علاجش لازم تسوين عملية».
ولنقف وقفة علمية موجزة مع هذه القضية ونحللها من عدة زوايا، فهي وكثير من شبيهاتها أصبحت تتكرر يومياً في أروقة المستشفيات، وفي مختلف الأقسام أيضاً.
أولاً: التشخيص
للوصول إلى تشخيص طبي دقيق لآلام الظهر فإنه لابد من اتباع عدة خطوات تبدأ بأخذ التاريخ المرضي على أقل تقدير، وصولاً للفحوصات الإكلينيكية التي تحتاج لمعاينة المريض مباشرة، وغيرها من الإجراءات التي قد تتطلبها الحالة، لا أن يقتصر التشخيص على صورة لأشعة الرنين المغناطيسي. في دراسة أجراها وبستر وزملاؤه العام 2010 خلصت إلى أن نتائج الأشعة التي تؤخذ في حالات آلام الظهر قد تؤدي إلى علاج وتنبؤ أسوأ بالحالة المرضية، وغالباً ما ستقود لاختيار العملية الجراحية من بين بقية الخيارات العلاجية.
ثانياً: الخيارات العلاجية
هناك خيارات علاجية كثيرة جداً لآلام الظهر، كالعلاجات الدوائية، الطبيعية والتأهيلية، السلوكية، النفسية، وكذلك الجراحية. ومن الضروري بيان أن كل حالة تحتاج لعلاج يفصَّل لها تفصيلاً خاصاً كاللباس تماماً. لذلك... فإنه من غير الدقيق أبداً تجاهل كل هذه الخيارات العلاجية، والتوجه بشكل مباشر للعلاج الجراحي والذي قد يكون الأقل أمناً من بينها، باستثناء بعض الحالات التي تظهر لديها أعراض وعلامات معينة تحتاج للتدخل الجراحي العاجل، وهي قليلة جداً جداً (قد لا تتجاوز ما معدله 1 إلى 2 في المئة فقط).
ثالثاً: علاج المريض أم علاج أشعته؟
نتائج الأشعة التي تؤخذ على المرضى المصابين بمشاكل الظهر لا تتناسب بالضرورة مع الأعراض التي يشتكي منها المريض؛ فقد تتعجب من مقدار التضرر في الغضاريف والفقرات ولكن المريض لا يعاني من أي ألم، وقد تستغرب أيضاً أن أحد المرضى لا ينام من شدة الألم ولكن التغيرات التي تكشف عنها الأشعة بسيطة ولا تعكس ما يعاني منه. وبحسب دراسة أجريت مؤخراً العام 2014 وجدت أن نسبة 88 في المئة من الأشخاص بعد سن الـ 60 سنة يعانون من مشاكل في الديسك (الغضروف) الموجود بين فقرات الظهر حسبما يظهر في نتائج الأشعة على رغم أنهم لا يعانون من أي أعراض أو آلام؛ ولذلك... فإن علاج المرضى وكذلك تشخيصهم لا يقتصر على نتائج الأشعة وحدها، بل في كثير من الأحيان لا تكون هناك حاجة لها أصلاً، فضلاً عن تأثيرها السلبي كما بينا.
رابعاً: البعد النفسي
الأبحاث الحديثة تلقي الضوء على أن المعتقدات والأفكار والتصورات التي يعتقد بها المريض أو التي يزرعها في ذهنه المختصون الطبيون لها تأثير كبير في مخرجات العلاج والتشافي من آلام الظهر. لذلك فإنه من غير اللائق أن يخاطب الطبيب أو العامل في المجال الطبي مريضه بخطابات سلبية تشعره بالعجز، أو أن حالته صعبة جداً، أو أنه لا يوجد شفاء لمرضه. وهناك بحث لطيف أجراه بن دارلو وزملاؤه العام 2013 تم فيه تسجيل وتحليل المحادثات التي تجري بين العاملين في المجال الطبي وبين المرضى المصابين بآلام أسفل الظهر، ثم التركيز فيها على الرسائل السلبية في مقابل الرسائل الإيجابية التي يتلقاها المرضى وتأثير ذلك على تحسنهم، وخلص في بحثه إلى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ما يزرعه الممارسون الطبيون من اعتقادات في مرضاهم وبين مخرجات العلاج وجودته، وتؤيد تلك الدراسة جملة من الدراسات الأخرى أيضاً.
وعوداً على بدء مع زميلنا الاستشاري الذي قال: «حجية عندش ديسك... علاجش لازم تسوين عملية»... كيف يمكننا تقييم هذه العبارة وسلبياتها على رغم قصرها؟ هل هي من جرح الكلام الذي قال عنه الحكماء إنه أعظم من جرح السهام؟ نعم... فكلمات الطبيب وغيره من العاملين في المجال الطبي قد تكون سهاماً تجلب الألم، أو أنها قد تكون بلسماً يرسم الأمل، أما كلمات الاستشاري إذا ما وضعت في الميزان العلمي فقد كانت بمثابة السهم، وتخيلوا معي كم من السهام يستقبل المريض في كل مراجعة طبية، أثم ننتظر أن تكون هناك جودة في العلاج؟!... فلنحسن اختيار كلماتنا جيداً.
إقرأ أيضا لـ "محمد الريس"العدد 5298 - الخميس 09 مارس 2017م الموافق 10 جمادى الآخرة 1438هـ
على الجرح وكثير من الاستشياريين يرمون بسهامهم على المرضى وهم لا يعلمون بالتوفيق استاذ محمد
السؤال لماذا اللغة المحلية الدارجة ؟
تسلم يا استاذ محمد على هذا الموضوع المفيد فعلا والمطلوب تقدبم امثالحه من المواصيع التي تناسب العامة من الناس...شكرا لكم
شكرا أستاذ
احسنت ، قبل عدة سنوات بعد الفحص بالرنين المغناطيسي طلع عندي دسك في فقرتين بالظهر ، وتلقيت من الطبيب نفس الجملة ، وقتها كنت اعاني من شبه شلل في احد الجوانب من الجسم ، وسويت رياضة بنفسي بدون الاستعانة بالمستشفيات والحمدلله تحسنت حالتي مع وجود بعض الالم في بعض الاوقات .