كانت فلتة وقى الله شرَّها... ها هي اليوم في صورتها الجديدة تختال أمامنا فكأن الزمن العربي يأبى إلا أن يظل خارج صيرورة التاريخ وبمحض إرادته يعود القهقرى ولا يخلِّف إلا ضحايا ومنازعات وتناقضات وأرامل وأيتاما فوق مسرح الحوادث... فما عاد للشمس ظهور ولا صار للفكر اتزان.
هنا في مملكة البحرين يولد البرلمان الثاني الذي هو أشبه بالفلتة التاريخية التي طلّت برأسها في سقيفة بني ساعدة فاختلطت الأوراق وتبعثرت الرؤى وصار للتاريخ طريق آخر غير صناعة التاريخ الأفقي المتلاقح مع تغيرات الزّمكان بما يضفيه من تقاطعات لبناء واقع جديد ينسجم مع التقدم البشري والإنماء الثقافي وينير الدهاليز المظلمة والعقول المتحجرة.
هنا في مملكة البحرين ينقلب السحر علي الساحر ليولد الطفل الثاني مشوها حينما اقتنص المقتنصون وانتهز المنتهزون غياب الحقيقة ليمتطوا الحصان الورقي ليصلوا إلى احتلال الكراسي الملونة في البرلمان الثاني. برلمان الشعارات. برلمان الوجاهة. برلمان نصف القمر المغيّب في الشهر العربي الناقص.
غابت الحقيقة عن العقل... واستفرد بالساحة من استفرد وطلّت علينا فلتة السقيفة من جديد ولكن بالثياب الملونة.
هكذا بكل بساطة يقفز القافزون على أكتافنا. يريدون تمثيل نصف القمر عن طريق الصمت المهيب والانصياع خلف دستور معدّل ارتضوه لأنفسهم متجاوزين الأرض والبشر. محدقين في عالم سحري ملون وأحلام ليس لها علاقة بالحلم... قاصدين المجد على سكة حديدية داخل قطار مليء بالخضروات والبقول وفتات الأرض.
حين يتمرد العقل على المنطق تجيء لنا الديمقراطية الجديدة من جيوب الأثرياء... أو من عقول موظفي السلطة فتأخذ بيدنا إلى مسرح الأحداث فنرقص مع الذئاب وتتخدر عقولنا ونصدّق كل شيء.
ذاك النيابي القادم من بئر «بورجوازيته الكبيرة» يريدنا أن نتعلم أبجديات اللعبة السياسية وابتدائيات المنطق اللغوي والطرق الحديثة في تقبيل الأنوف. وذاك النيابي القادم من بحر الجهل يريد لنا أن نعيش في سالف العهود ونفتح معركة ضد «الخمر» لأنها أم الكبائر، فإن تمكنا من الانتصار عليها سنكون قد حاصرنا الفساد وطهرنا المجتمع من أضرارها... وبتنا على مقربة من الصعود إلى القمر.
ذاك النيابي الذي يمسك العصا من الوسط يريد أن يعلمنا أن قلبه مع الشعب، لكنه لن يخالف ما نص عليه الدستور المعدل... دستور 2002 ودستور 73 قد أكل عليه الدهر وشرب.
إن هذه اللوحة المعروضة على مسرح البرلمان الثاني يعجز بيكاسو عن فك رموزها، فهي تمثل خلاصة الفن السريالي المتقاطع مع الفن السياسي الحديث والانتهازية المتحضرة.
على الشاطئ الآخر أو على ضفاف البحر ستقف الطيور المسالمة وهي تتفرج على حدث يعد فلتة من فلتات العصر، حينها لن تذرف الدموع أو تتأسى على ماضٍ كانت إرهاصاته تسير عكس مجرى التوقعات لأن الوقت يمضي بسرعة مذهلة، وهو كفيل بأن يكشف الخواء للدوائر المنتصبة فوق الرقاب التي نسميها اصطلاحا رؤوسا.
إن الحقيقة التي افتقدناها تم تفريغها من محتواها. فتسابق أولئك المترشحون للإجهاز على حقوق المناضلين الذين أسسوا أرضية الإصلاح وعانوا غربة الوطن ومرارة الحياة. وجاءتهم الفرصة على طبق من ذهب ليفوزوا بالمقاعد الملونة الأثيرة، وبعدها سيؤدون فريضة الطاعة للدستور المعدل.
تتقاطع الأمثلة والحوارات في النفس البشرية فتشكل محورا أساسيا فيتحول النيابي غير المدقرط إلى حالة مدقرطة تلبي احتياجات السلطة أمام الرأي العام العالمي لتمنحها بريقا ثاقبا... يحوّل الأنظار من الأساسيات إلى الشكليات ولا يغوص في العمق حتى لا يتعرض للغرق.
سيكون الصراع داخل المجلسين (المنتخب والمعيّن) ضربا من الخيال الأورثوذكسي أو الركض وراء طواحين الهواء وأي ثمرة ستنضج سوف تسقط في سلة الحكومة حتى تتعفن.
قد نتفرج اليوم على واقع درامي انفلت عنوة من المشهد السياسي العام ولن يكون في مقدورنا غدا إلا الذهاب إلى المصحات السياسية من أجل التريض وكبح جماح العقل والامتثال للنتائج التي لن تخرج عن أدراج البرلمان لتعود إليها من جديد... وهكذا دواليك.
إن الشعارات المرفوعة في برامج خطط البرلمانيين الفائزين عبارة عن خيام ومآدب وترغيبات وترهيبات... ووعود بمسك المستقبل من عنقه وطرحه أرضا ليسير عليه المعذبون فيكون لهم جسرا أو سلّما لقطف الثمار العالية من رؤوس الأشجار... ومثل هذه الشعارات البراقة تؤكد امتهان واحتقار العقل وزلزلة للفكر والمنطق على حدٍّ سواء.
الإمام علي (عليه السلام) قال: «ينهمرُ مني السيل ولا يرقى إليَّ الطير» وحين تتوقف عقارب الساعة تصبح العبارة «ينهمر مني الزيف... وأكون عبدا للسيف» وآخر لا يجد للمجتمع إصلاحا إلا السير على مناهج السلف الصالح... وكأنه بذلك يعني أن هؤلاء السلف هم الذين صنعوا التاريخ، متناسيا أن البشر هم الأساس، فالتاريخ لا يصنعه رجل بمعزل عن الجماهير. وثالث قذفته أنانية حب الذات فصعد على أكتاف الأبرياء العزل من جادة الصواب... وتحقق حلمه فوق الأنقاض.
إن تعثر القيم وانكسار المبادئ أفرزت واحدة من أبرز الهزائم للعقل البشري في زمن تتلون فيه الأشياء وتنمو التناقضات، فأي حكومة في العالم تريد برلمانا ما لم يكن هذا البرلمان لا أنياب له؟ وكيف لحكومة تدعو برلمانها ليتعاون معها..؟
حينما تقرأ مثل هذه المشاهد تقتنع تماما بأن الحبكة الدرامية أدت دورها كاملا ونجح الترزي في تفصيل الملابس البرلمانية بدقة متناهية تحت غطاء الدستور المعدل
العدد 68 - الثلثاء 12 نوفمبر 2002م الموافق 07 رمضان 1423هـ