المجتمع الشرقي مجتمع قائم على المدح والتطبيل، لهذا تجد النقد فيه يعتبر صورة من صور التشهير وحب المعارضة واصطياد الأخطاء. وقد توضع في أسوأ الحالات انها عملية افتتان لالقاء الحبر الأسود على المنجزات والمكتسبات. لهذا تجد الوزير الأوروبي يبتسم عندما تقوم بنقده وعندما يشعر انه وراء كارثة تعليمية أو بيئية فإنه سرعان ما يقدم استقالته ويطلع على التلفاز ليقدم عذره للشعب وللسلطة أيضا. عندما يخرج من أروقة السلطة تجده كأي إنسان عادي، يجالس الناس، يضحك معهم، يصبح كأي واحد من المجتمع.
في ظل التغيرات الوزارية يتغير الأفراد وتبقى بعض المشكلات عالقة تنتظر عفو ورحمة الوزير الجديد وهي رهن الكفاءة والدربة التي يحملها... يقال إن وزيرا بحرينيا استطاع ان يوفر لوزارته مبلغا محترما من الموازنة، كان دائما ما يذهب في رحمة الإسراف الوزاري... هذه النوعية من الوزراء - بلا شك - تمثل مكسبا لأي مشروع إصلاحي، لأنها أولا ستضفي سمعة إيجابية ونقطة مضيئةَ في ملف هذا المشروع ويجب ان ننمي مثل هذه الإيجابيات.
لذلك ينبغي ان تنتهي تلك الاعتقادات الخاطئة والمترسخة كعقيدة في عرف الصحافة والكتاب والمثقفين وكل المشتغلين في حقول السياسة أن الوزير أو الوزارة رسالة قد أنزلها الله من السماء فهي مقدس لا يمكن مساءلتها... هذه نظرة قديمة مازال يضحك علينا فيها الغربيون والدول المتحضرة. العالم الأوروبي وصل إلى مرحلة التداول السياسي السلمي ومنذ عشرات السنين ونحن مازلنا نقدم رجلا ونؤخرها في نقد الوزارة إذا ما أخطأت. هذه مفارقة تعكس مدى صورة التخلف الذي بلغ إليه العالم العربي.
فالوزير عندنا وعند صحافتنا مثل الإله مسئول عن الخير فقط، أما من هو المسئول عن ضياع الموازنة؟ عن احتضان الفاسدين أو المطرودين من وزارات أخرى؟ أو المسئول عن تفشي البطالة أو ضياع الأكاديميين عن الاحتضان الوظيفي؟ أو انتشار ظاهرة العقود المؤقتة في المؤسسات بما فيهم القطاع الصحي فالعلم عند الله. في ظل التغيير الوزاري الجديد يجب ان يشغل وزراؤنا الأفاضل صفحات الصحف والمجلات بالإنجازات الجديدة والخطط المستقبلية بدل الحالة الماضية من ملئها بالصور واللقاءات.
الصحافة ينبغي ان تكون موقعا لمعرفة الناس لمدى حداثة وتطور ونهضة الدول، من خلالها ترى الدولة انجازات الوزراء وردود أفعال الناس عن هذه الإنجازات سواء كانت بالسلب أو الإيجاب بدل ان تصبح موقعا من خلالها نرى الابتسامات المتنوعة للوزير... أو...
ولهذا فإن المبالغة في مدح الوزير قد تضر ولا تفيد، قد تعمل على تكرس مظاهر العلو النفسي والفوقية التي هي أشد السلوكيات حاجة إلى عمليات الرجيم وخفض الوزن. والفوقية والتضخم الذاتي مشكلة شرقية تكاد يتساوى فيها الجميع بمن فيهم القوى السياسية. فقلما تجد معارضا يناقش من دون التلفت إلى الكارزمية التي يعيشها، لذلك أوصانا ديننا الحنيف بالحذر من (خفق النعل) وكثرة الاتباع الذين يكادون يتساقطون أمام الوصايا العظيمة.
فحتى مؤسساتنا المدنية تبدأ مؤسسة ثم تختزل حتى تتمركز فيها الشخصانية فقلما تجد مؤسسة غير متشخصنة إلا ما رحم ربك.
فنحن نجد في بلداننا العربية ظاهرة التفرد بالقرار من أبرز الظواهر شيوعا، في مسجد، في وزارة، في مؤسسة، رئاسة عمال، فلاحين وتارة بمنطق قبائلي عائلي يذهب ضحيته حتى المجتمع. في بلادنا ما ان يرأس أحد مؤسسة حتى لو كانت مؤسسة دواجن سرعان ما يتحول إلى فرعون.
وعادة ما يكون المسئول عن ذلك هو المجتمع والأتباع. لا يوجد عصمة في السياسة ولا في القضايا الاجتماعية ولا أي شيء.
فالمجتمع يلغي عقله وتفكيره إذا انبهر بأحد وتبدأ أزمة عبادة الفرد، والصحافة إذا أحبت وزيرا عقدت معه شهر العسل، فالقضايا التي يركز عليها الوزير الفلاني والعلاني تجدها حاضرة كنظرية فلسفية على واجهات صحافتنا فإذا تحدث مثلا عن مضار التدخين اختفت كل المشكلات ولم نقرأ أو نسمع إلا عن مشكلة التدخين، تكلم عن الطيور أصبحت الطيور قضيتنا وهمنا الأول والأخير، تكلم عن ورد هولندا وزهورها أصبحت كل صحافتنا تتكلم عن ورد هولندا وزهورها، تكلم عن ثور اسبانيا أصبحت الصحافة تتكلم عن ثور اسبانيا. وهكذا تضيع القضايا المهمة التي تركز عليها الدولة وتهم الدولة وينظر إليها الناس بين زحمة النظريات الجديدة! وإذا جئنا إلى مشكلة حقيقة ذات ابعاد سياسية واجتماعية وثقافية ملحة تجدها مختبئة بين زحمة الأخبار هذا إذا طرحت من دون تغليف مرت عليها مشكلات كثيرة بعضها وجد حلا والبعض ضاع اعتمادا على ذاكرة الناس التي ما عادت تمتلك أهلية الاحتفاظ بالقضايا فهي رهينة النسيان.
مشكلة تسمم أهالي سترة والمخبز المتسبب ذهبت مع الريح. مشكلات المصانع والأزمات الأخلاقية ولزوم وجود لجنة مراقبة دائمة لحقوق العمال والعاملات من قبل وزارة العدل والشئون الاجتماعية انتهت وأصبحت في طي النسيان.
ملف سامي سمير وابنه وزوجته المخطوفين إلى السعودية مازال عالقا والفقير سيستقبل العيد ليس كبقية الاباء. عام ونصف وهو رهين العذاب. ملف المفقودين في العراق زوبعة في فنجان، أبناؤنا في غوانتنامو مازال المف عالقا. ووزارة الخارجية لم نرَ لها تصريحا واحدا عن كل هذه القضايا على رغم كل الجد الدائر في الصحافة وحتى على لسان كبار المسئولين نرى اهتمامهم وتتبعهم بيد ان الوزارات كأن على رأسها الطير.
الطفلة فاطمة أشهر مرت ولم نلتقط حتى خيطا واحدا فلو كانت ابرة ضائعة لتم اكتشافها والحصول عليها. العمل الوحشي في جزيرة (مالي) تم الوصول إلى خليط القضية في خلال أيام على رغم الكثافة السكانية وحجم اندنوسيا وهنا مازالت وزارتنا عاجزة عن الامساك بأي خيط يوصلها للقضية. أعتقد أننا بحاجة إلى قراءة قصص اجاثا كرستي. هذا يدل على ان هناك ضعفا واعتقد ان القضية احرجت بعض المسئولين في الوزارة لأننا في دولة صغيرة وفي عدد سكان محدود لا يحتاج إلى كل هذه الشهور من البحث.
أما بالنسبة لسلك القضاء الشرعي فعلى رغم إيماني بقانون الأحوال الشخصية إلا أنني أرى ان القضية أخذت من بعدٍ واحد. فكلنا نتفق كمسلمين نؤمن بالشريعة السمحاء ان قانون الأحوال الشخصية مربك لشريعتنا ولكن أيضا يجب ان نضع في موازاة عدم قبول هذا القانون عدم قبول الفساد الموجود في سلك القضاء. ففي الوقت الذي يوجد في المحكمة الجعفرية شخصيات نزيهة وذات كفاءة علمية ينبغي أيضا ان نعترف ان هناك قضاة لا يمتلكون ألف باء الفقه ولم يدرس حتى (شرائع الإسلام) التي تدرس في أوليات الفقه الجعفري انما وصل إلى السلك القضائي لاعتبارات أخرى بل ان هناك من تحفظ من ذات القضاة القدامى على مثل هؤلاء غير المؤهلين.
عدا عن ظاهرة التسيب في عدم مراعاة بعض الأحكام الفقهية التي يجب مراعاتها أثناء ترافع الخصوم. وحتى نكون علميين في نقدنا يجب ان لا نعمم الحكم في المحكمة الجعفرية رجال نزيهون ومؤهلون علميا ولكن أيضا يجب ان لا نغض الطرف عن التسيب الخلقي أو الشرعي لدى قسم قد لا يستهان به من قضاة غير مؤهلين.
نحن نرفض قانون الأحوال الشخصية وندعو إلى تعزيز موقف الشريعة وفق رؤى فقهية مقننة منضبطة وفق إشراف فقهاء كما ويجب محاربة ظاهرة التسيب واستغلال الحيل الشرعية لدى بعض القضاة حتى نمنع ونقطع أي كلام على هذا السلك الذي يقتضي النزاهة والقداسة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 68 - الثلثاء 12 نوفمبر 2002م الموافق 07 رمضان 1423هـ