العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والفكر السياسي ليست علوما دقيقة، والمختصون في استشراف المستقبل قد تصدق توقعاتهم أحيانا ولكن قد تفاجئهم الحوادث والتطورات بنتائج وتداعيات معاكسة تماما لما تنبأوا به. فسفير الولايات المتحدة في طهران بعث تقريرا لحكومته قبل أشهر فقط من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، اعتبر فيه أن الوضع هادئ وطبيعي ولا يؤشر على حدوث أي تغييرات ذات أهمية. وفي تونس أعد أحد الباحثين الاجتماعيين دراسة في مطلع السبعينات اعتقد في خاتمتها بأن التحولات العميقة التي حصلت في البنى الاجتماعية والثقافية تجعل تونس غير مرشحة لتنبت فيها حركة إسلامية على شاكلة جماعة «الإخوان المسلمون». صدر ذلك الحكم في نفس اللحظة التي ولدت فيها أول نواة إخوانية على الأرض التونسية.
واعتقد الكثير من المفكرين اليساريين المغاربة خلال السبعينات والثمانينات بأن بلادهم ملقحة ضد ظاهرة الإسلام السياسي نظرا لكيام النظام على البعد الديني وتمتع الملك بلق أمير المؤمنين، فجاءت التسعينات وبدايات القرن الجديد لتنسف هذه الأطروحة بكاملها. وأخيرا توالت الدراسات والتعاليق في السنوات الأخيرة، وتسارعت وتيرتها منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول إذ يبشر أصحابها بقرب موت ما يطلق عليه بالأصولية الإسلامية ونهاية الفكر الديني الحركي. وإذا بالانتخابات التي جرت في المغرب، والبحرين وباكستان وأخيرا تركيا تكشف بأن الظاهرة أكثر تعقيدا ولا تقبل التحاليل الأحادية والبسيطة.
كثيرون يختزلون الحركات الإسلامية في بعدها السياسي ويسقطون أبعادها الأخرى، التي لا تقل أهمية سواء في فهم الظاهرة أو في الحكم عليها سلبا أو إيجابا. ويعود ذلك إلى الحجم الكبير الذي تحتله السياسة سواء لدى الحكام المتشبثين بمواقعهم والأحزاب الخائفة من المنافسة أو لدى المثقفين ووسائل الإعلام التي تتغذى من النزاعات المستمرة بين مختلف الأطراف عن الحكم والنفوذ والحرية، كما تتولى بدورها تغذية هذا التنازع والنفخ في أحجام أبطاله. ويبلغ هذا الشغف الشديد بالصراع السياسي قمته عندما ينخرط الإسلاميون بشكل كامل في هذه اللعبة الخطيرة، ويختزلون بدورهم الخطاب الديني في أدوات السباق نحو الحكم، من دون اكتساب الوعي المتكامل بمختلف أبعاد أزمة مجتمعاتهم التي تدفعهم وترشحهم في أكثر من بلد لقيادتها.
السؤال الأول : لماذا فشل الآخرون؟
عندما يفوز الإسلاميون في انتخابات هذا البلد أو ذك فهذا يعني أن غيرهم قد فشل في الاحتفاظ بمواقعه القيادية السابقة، مما دفع بالناخبين إلى تغيير الحصان والمراهنة على بديل آخر. وبالتالي فإن معرفة الأسباب التي أدت إلى انتصار الإسلاميين تكمن في جزء كبير في تحليل العوامل التي أدت إلى فشل منافسيهم الذين سبقوهم في الحكم والنفوذ وقيادة حركات المعارضة. أي أن فشل الآخرين يمهد الطريق لصعود الحركات الجديدة التي يتوقع الجمهور بـأنها قد تحمل البديل، وتكون أقدر على حل الأزمات الكبرى.
وما يلفت الانتباه في معظم الانتخابات الأخيرة التي جرت في أكثر من بلد عربي وإسلامي، أن ما يجمع بينها إضافة إلى ما حققه الإسلاميون من صعود انتخابي ملحوظ، أن ذلك حصل على حساب أحزاب وحركات احتلت موقعا رياديا في المرحلة السابقة. ففي المغرب، على رغم أن حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال الذين شكلا ولا يزالان العمود الفقري للحياة السياسية المغربية بقيا يحافظان على صدارة الطبقة السياسية، إلا أن النتائج المفاجئة التي حققها حزب العدالة والتنمية تعتبر رسالة مضمونة الوصول لكامل النخبة المغربية المهددة بأن تتجاوزها الأحداث إذا لم تراجع الكثير من أطروحاتها ووسائل عملها وعلاقاتها بالناس. لقد حقق الاتحاديون عددا من المكاسب، لكنهم يجب أن يعترفوا بأنهم فشلوا في تجسيد أهداف أخرى على قدر كبير من الأهمية والحيوية بالنسبة للجماهير المغربية. وقد اتفق الكثير من الذين علقوا على تلك الانتخابات على القول بأن اليسار المغربي مطالب بأن يتجاوز في أقرب فرصة حالة التيه التي يعيشها منذ الثمانينات على قبل أن يخرج نهائيا من التاريخ والجغرافيا، على رغم أهميته التاريخية ودوره الأساسي في تحقيق تعددية فعلية وبناءة.
أما في البحرين فقد جاءت نتائج الانتخابات البلدية ثم التشريعية قاسية جدا بالنسبة للقوى السياسية ذات التوجه القومي واليساري التي كانت تقود الحركة الديمقراطية في مرحلة ما قبل التسعينات، لتكتشف بعد عودة رموزها وقياداتها التاريخية من غربة طويلة بعضها كان قسريا وبعضها كان اختياريا، أن كل شيء تغير في البلاد بما في ذلك موازين القوى والمفاهيم والأدوار السياسية. وعلى رغم الجهود التي بذلت بسرعة من أجل استثمار الرصيد النضالي السابق، وإعادة توحيد الصفوف وتعبئة العناصر التي بقيت وفية للتراث المشترك والنضال الديمقراطي، إلا أن أخطاء الماضي وعدم امتلاك القدرة على التكيف السريع مع متغيرات الواقع المحلي إضافة إلى عوامل أخرى جعلت النتائج الانتخابية تعكس ميزان القوى الجديد الذي ولدته مرحلة التسعينات بكل أحداثها الجسيمة.
وجاءت الصورة أكثر وضوحا ودرامية بالنسبة للـطبقة السياسية التركية التي تحملها العسكر وحماها وساعدها طويلا. فجأة قرر الشارع التركي أن يسحب ثقته من معظم مكونات هذه الطبقة بشكل تراجيدي، مما دفع عددا من وجوهها التاريخية نحو الانسحاب من الحياة السياسية مؤكدة بذلك إفلاس قطاع عريض من النخبة العلمانية التركية التي وجدت نفسها عاجزة عن حل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وبالتالي إقناع الاتحاد الأوروبي بأن تركيا أصبحت مؤهلة لعضوية الأسرة الأوروبية.
السؤال الثاني : لماذا الجماهير أصواتها ؟
فشل الآخرين عامل مساعد جدا لصعود القوى السياسية والاجتماعية الجديدة، لكنه لا يعتبر دليلا في حد ذاته على امتلاك هذه القوى قدرات أفضل لحل الأزمات التي طحنت غيرها وأزاحتها من الركح السياسي. فضعف خصمك لا يعني بالضرورة أنك الأقوى حتما. وهذا ما يجب أن تفكر فيه جيدا الحركات الإسلامية التي رشحتها الظروف السياسية المحلية وربما الدولية للقيام بأدوار أساسية في بلدانها. ولعل من بين الأسئلة الرئيسية التي يفترض أن يطرحه أي حزب على نفسه عندما يفوز في أي انتخابات هو : لماذا أعطته الجماهير ثقتها وما ذا تنتظر منه ؟.
إن الجماهير في المجتمعات العربية والإسلامية تكاد تعلن كراهيتها للسياسة والسياسيين وتلعن الجميع من دون استثناء، لأنها سئمت من الوعود الكاذبة، وازدواجية الخطاب، ولهث الجميع وراء المناصب بحثا عن فتاة الدنيا وعسل السلطة. إن مشكلة الناس مع العاملين في الحقل السياسي هي أخلاقية بالأساس. الناس يريدون من الأحزاب أن تكون في خدمتهم وليس العكس، إذ لا معنى للمصالح الوطنية أو القومية إذا لم تكن تعني الدفاع عن مصالح الأغلبية الساحقة من المواطنين. ولعل هذا العنصر الأخلاقي هو الذي أخذ يدفع أوساطا واسعة في أكثر من مجتمع نحو التجاوب مع بعض الأحزاب ذات الميول الدينية. فعامل القدوة عامل هام وحاسم في خلق الارتباط بين السياسي والجمهور خاصة في المجتمعات العربية الإسلامية التي لا تزال تعطي للقيم والروابط الأخلاقية أولوية في نسج الولاءات.
هذا لا يعني أنه بالأخلاق وحدها يمكن قيادة الشعوب لفترات طويلة. فالسلوك الأخلاقي المرتكز على النظافة والشفافية والتضحية، لا بد أن يقترن أيضا بالدفاع عن حق الجميع في الحرية والمساواة والأمن والعدالة الاجتماعية التي من أهم مظاهرها الحق في العمل ومحاربة الاستغلال واحتكار السوق والتحكم في ارتفاع الأسعار. فالأحزاب الإسلامية التي توصف بالوسطية أو المعتدلة، عندما ترشحها الأحداث إلى خوض غمار الحكم تصبح أكثر إدراكا للحاجيات الحقيقية لمجتمعاتها، وكذلك الصعوبات المحلية والدولية، فيقل تحليقها في الفضاء وتصبح أكثر ارتباطا بالواقع ومتطلباته. عندها فقط تعلم أن التغيير الحقيقي يتطلب اكتساب نظرة تنموية ذات مضمون اجتماعي وديمقراطي وحقوقي، إلى جانب امتلاك كوادر تجمع بين الكفاءة والتربية السياسية الديمقراطية والحرص على تجنب الشبهات. ويضاف إلى ذلك ذكاء واسع في التعامل مع المحيط الدولي الذي بلغ من التعقيد درجة جعلته يتحكم بشكل يكاد يكون كليا في الأوضاع الداخلية للدول، خاصة الضعيفة منها. ومثال تركيا مثال «نموذجي» في هذا السياق. فمن دون طمأنة الصندوق الدولي وكسب ثقة الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يستمر أي حزب في الحكم طويلا.
خلاصة القول هو أن النتائج الانتخابية الأخيرة، وخاصة تلك التي حصلت في تركيا تؤكد بأن القوى السياسية التقليدية التي احتكرت الحكم أو المعارضة في المراحل السابقة مهددة بالانقراض إذا لم تجدد دماءها وأفكارها وقياداتها ومناهج عملها. وأن الإسلاميين الذين تنبأ البعض بتراجع دورهم واختفاءهم، مرشحون في أكثر من بلد مسلم للصعود إلى الركح السياسي عن طريق الانتخابات الشفافة. وهو اختبار جديد لهذه الحركات التي شغلت الأمة منذ حوالي القرن من الزمان، فإما أن تحسن إدارة العلاقة بين الديني والسياسي، وأن تجعل من أولويات الجماهير أولويات ملزمة لها، وأن تتعامل مع العالم كما هو وليس كما تصوغه أيديولوجياتها ومعتقداتها، وبذلك قد تنجح فيما فشل فيه غيرها، أو أن تتمادى في خوض معارك وهمية أو هامشية، فتضيع فرصتها في التطور وخدمة مجتمعاتها، وتسهم بذلك في تعميق الدوامة التي تعيشها الأمة منذ فترة طويلة. ومن هذه الزاوية سيكون للتجربة التركية مع حزب العدالة والتنمية الذي يحاول الجمع بين العلمانية والخلفية الإسلامية، وكذلك التجربة الإيرانية مع التيار الإصلاحي تداعيات مهمة تتجاوز حدودهما الجغرافية، وقد تفتحان أفقا جديدا بعد مخاض مؤلم استمر حوالي قرن من دون الوصول إلى شاطئ الأمان
العدد 68 - الثلثاء 12 نوفمبر 2002م الموافق 07 رمضان 1423هـ