الصراع العربي الإسرائيلي أضفى على الدوام قدرا من التعقيد على العلاقات بين دول الخليج والولايات المتحدة، وشهدت هذه العلاقات على وقع ذلك الصراع ظروفا بالغة الحرج، استهدفت على الدوام اختبار مدى قدرة الخليجيين على التواؤم بين التزامهم القومي تجاه الشعب الفلسطيني، وبين الدفاع عن مصالحهم مع الولايات المتحدة.
حدث ذلك أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 فيما عرف بوقف تصدير النفط الى الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها لإسرائيل، وحدث ذلك في حربي الخليج الأولى والثانية 1980 و1991. وهو يحدث بين حين وآخر تبعا لتقلب الوضع في المنطقة، واشتداد الأزمات فيها.
بطبيعة الحال لم يختر الخليجيون ان يضعوا أنفسهم بين هذين الالتزامين، مثلما لم يبادروا الى اختيار حلفائهم وأصدقائهم، لكن ظروف التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية فرضت عليهم واقعا أصبح مع الوقت جزءا حيويا من البناء السياسي والاقتصادي والأمني للمنطقة.
فما بين الولايات المتحدة ودول الخليج ليس فحسب علاقة تحالف او شراكة عسكرية دفاعية اقتصادية، لكنه نوع من التلازم الحيوي في التوجهات والاختيارات المهمة. فالوجود الأميركي في المنطقة، وإن لم يكن دائما تبريره مريحا للحكومات الخليجية، إلا أن هذا الوجود يمثل حقيقة لا يستطيع أي مسئول ان يتجاهلها او يقفر عليها.
أتفهم بطبيعة الحال الأصوات الداعية إلى إجلاء القوات الأميركية من الخليج، ومن الممكن تفهم دوافع المنادين باتباع سياسية متشددة تجاه الإدارة الأميركية، تعكس مدى الضرر الذي يسببه انحيازها التام للعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في لحظته الراهنة، كما في لحظات كثيرة أخرى.
لكن المشكلة هي أن الولايات المتحدة ليست سفينة حربية ترسو على شواطئنا، ويمكن الطلب إليها الرحيل، وهي ليست مجرد دولة عادية يمكن قطع العلاقات معها او الطلب من سفرائها مغادرة الأراضي الخليجية.
الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وهي التي تسيطر على الجزء الأكبر من حركة الاقتصاد والعسكرة والسياسة والتكنولوجيا والإعلام في هذا العالم، ويمكن أن يستمر ذلك لعقود مقبلة.
ومثل هذه الدولة يحتاجها الآخرون عادة ويخطبون ودها وصداقتها وليس العكس. ونحن نرى اليوم ان العقوبات الأميركية على مختلف دول العالم تمثل عقابا وإجراء مزعجا، فهل يمكن لأحد ان يطلب مقاطعة الولايات المتحدة، هل يمكن لأحد ان يطلب إنزال العقاب بحق نفسه؟
وحتى الدول التي تتحدى الولايات المتحدة او تتشدق بذلك، فهي تتمنى ان تنال رضا الإدارة الأميركية وان تتخذ لها موقعا في السياسة الأميركية، وهي تغضب حين يصدر بيان او تصريح أميركي يتهمها في أمر ما، فتسارع الى نفي التهمة عنها، وإثبات حسن سيرتها وسلوكها. فلماذا تفعل ذلك إذا كانت تتحدى الأميركيين وتسعى إلى إبعادهم، أو إذا كانت واشنطن قليلة الأهمية؟
ولدول الخليج التزامات واتفاقات متنوعة مع الولايات المتحدة، اقتصادية وعسكرية وأمنية وثقافية، وكثير من هذه الاتفاقات مفيد للخليجيين وليس للأميركيين فحسب. ولنتذكر ان دول الخليج هي الوحيدة من بين الدول العربية التي حافظت على مستوى اقتصادي جيد وقدرة شرائية معقولة لدى مواطنيها، في حين أن كل الدول الأخرى تدنت فيها مستويات المعيشة بصورة مطردة على مدى العقدين أو الثلاثة الماضية، على رغم أن من بين هذه الدول العربية دول نفطية، وأخرى غنية بمواردها (فعلى سبيل المثال كان الدولار يساوي ست ليرات سورية في مطلع الثمانينات بينما هو الآن يساوي 50 ليرة، وكان الجنيه السوداني يساوي في السبعينات ثلاثة دولارات، بينما الدولار اليوم يساوي فوق الألفين من الجنيهات، وكان الدينار العراقي يساوي في الثمانينات أكثر من ثلاثة دولارات بينما الدولار اليوم يساوي 1500 دينار عراقي، وقس على هذا الأمر بالنسبة إلى باقي الدول العربية).
إن جزءا كبيرا من ثبات المستوى الاقتصادي في دول الخليج، بالإضافة الى أسباب أخرى، يعود الى العلاقات الوثيقة التي بنتها هذه الدول وحافظت عليها مع الولايات المتحدة والدول الغربية.
أقول ذلك رغم أنني كنت طوال العقد الماضي وما أزال من أكثر المنتقدين للسياسة الأميركية في المنطقة، سيما تجاه العراق.
لكن هذا الانتقاد لا ينبغي ان يحجب في الوقت نفسه الآثار الإيجابية للعلاقات الخليجية الأميركية، منظورا إليها من زاوية المصلحة الخليجية، كما أنه لا ينبغي ان ننساق مع الدعاوى - الساذجة أحيانا - التي تطالب بقطع او الإضرار بهذه العلاقة.
فهذه الدعاوى أيا كانت دوافعها او نواياها، حسنة ام بريئة، فإنها لا تقرأ الواقع الخليجي او الدولي بشكل جيد. وهي تفتقر في كل الأحوال إلى رؤية لاستشراف المستقبل وما يمكن ان يكون عليه. وتجربة الاتحاد السوفياتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه شاهد على ذلك.
نعم ثمة مآخذ كثيرة على السياسة الأميركية، لا سيما فيا يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن المهم لدول الخليج ان تلعب دورا واضحا في دعم الشعب الفلسطيني وعدم التخلي عنه، كما من ألهم ان تعمل ما بوسعها من أجل دفع السياسة الأميركية في المنطقة إلى لقيام بقراءة أفضل للمواقع وأكثر منطقية.
ولكن ذلك يجب ان يتم في إطار الحفاظ في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع واشنطن، وليس في إطار العمل على الإضرار بهذه العلاقات. فباعتقادي من الخطأ السماح بإيجاد وضعية يتم فيها وضع التناقض بين العلاقات مع الولايات المتحدة وبين دعم الشعب الفلسطيني. بحيث يصبح على هذه الدول ان تختار بين هذا وذلك. إن هذه الوضعية، عدا أنها ليست واقعية وغير ممكنة، فإنها أشبه بالدائرة المغلقة، التي مهما تحركت في أرجائها فإنك لن تصل الى نقطة بداية أو نهاية فيها. ومن يضع المسألة على هذا النحو لا يجب أن يتوقع أن يجد حلا، او يرسو على بر. فالمسألة أكبر من مجرد موقف سياسي . إنها تمتد إلى طائفة واسعة من القضايا التي تحتاج إلى بحث ومقاربة من قبيل:
- إمكان دول الخليج الاكتفاء عسكريا وأمنيا بنفسها.
- حجم وطبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة ودول الخليج.
- المسألة النفطية، وعلاقة المنتجين بالمستهلكين.
- طبيعة الموقع الحالي الذي تحتله الولايات المتحدة في العالم.
- موقع دول الخليج في النظام الاقتصادي العالمي (العولمة) وعضويتها في منظمة التجارة العالمية وما يترتب عليه... إلخ.
أعلم أن مثل هذا الكلام ربما يزعج الكثيرين وربما يثير غضب البعض ممن يتوقعون ويريدون من الحكومات العربية والخليجية تحديدا ان تبادر الى عمل شيء (أي شيء) للرد على التأييد الأميركي لإسرائيل. وربما نتفهم مثل هذا الطرح، وقد نؤيده عند حدود معينة، لكن ليس بوسع المرء دائما، ولا يجب ان ينجرف وراء العواطف والمواقف الحماسية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمسائل الحيوية والجوهرية أو ما نعتقد أنه كذلك
العدد 67 - الإثنين 11 نوفمبر 2002م الموافق 06 رمضان 1423هـ