بـ 14 صوتا ضد لا شيء تبنى مجلس الأمن مساء الجمعة الفائت الاقتراح الأميركي الأوروبي الخاص بنزع أسلحة الدمار الشامل من العراق، وهو قرار من القرارات الدولية القليلة التي صوّت عليها بالإجماع في مجلس الأمن، وكان التخوّف أن تستخدم أي من الدول الثلاث المعارضة نسبيا حق الرفض (اليتو) وهو لم يستخدم ضد قرار أميركي منذ سنة 1956. وقتها استخدمته فرنسا وبريطانيا ضد الولايات المتحدة في حرب السويس، إلا أن الظروف اختلفت.
وبأية لغة أراد المتابع أن يقرأ هذا القرار وتفاصيله الدقيقة والمناورات التي سبقته، فإنه يجد أن القرار يقول بوضوح للعراق إن زمن التسويف والتعطيل والمناورة ولى، فهو - كما وصف نفسه - آخر فرصة للعراق، ولم يعد أمام النظام العراقي في المستقبل القريب إلا أن يوافق على كل تفاصيل القرار، وبالتفسير الأميركي أيضا.
من يقرأ القرار على انه قرار دبلوماسي مؤقت وظرفي وقد ينتج عنه في القريب انفراج يعيد الأمر إلى التفاوض والأخذ والرد، فهو من جهة لا يقرأ صيغة القرار قراءة واضحة، ومن جهة أخرى لا يعرف حق المعرفة ردود فعل النظام العراقي في مثل هذه الحال. فالقرار لا يتيح فسحة لأي احتمال بالمناورة، كما أن البيان الذي ألقاه رئيس الولايات المتحدة في واشنطن بعد بضع دقائق من تبني القرار في نيويورك، وظهرت فيه نبرة التحذير الواضح بأن الولايات المتحدة لن تعيش تحت رحمة أية مجموعة أو دولة تهدد السلام العالمي، وان على العراقيين العاملين في برامج أسلحة الدمار الشامل أن يتقدموا بالمعلومات التي لديهم إلى لجان التفتيش، بالوثائق والمناطق، أما الفكرة الأقوى فهي عندما قال الرئيس بوش نحن نريد التخلص من أسلحة الدمار الشامل وعلى النظام العراقي أن يقرر كيف؟
مثل هذا الصوغ المشدد الذي تبعه بعد لحظات رئيس الوزراء البريطاني بشيء مشابه في اللغة وفي التوجه، يدل على أن القرار ما هو إلا صيغة دبلوماسية وسد للذرائع تعطل في المستقبل أي لوم قد تتبناه جماعات أو دول في حال التدخل العسكري الذي لا يبدو أن قطاره الذي تحرك سيتوقف.
من جهة أخرى، صيغ القرار وكأنه درس الوضع النفسي الذي يحاصر القيادة العراقية التي لديها قدرة هائلة على خداع النفس وقراءة الموضوعات بشكل عكسي، لذلك فإن القرار لا يدع مجالا للشك في أن المفتشين القادمين إلى بغداد هذه المرة هم فوق أية عقبات يمكن أن توضع أمامهم، بل ان الدولة العراقية عليها أن تتعاون مع طلبات لجان التفتيش على أنها أوامر وإلى آخر مدى، فهي لجان لا يمنعها مانع ولا يقف أمامها عائق، ونتيجة عملها هي التي ستقرر مستقبل العراق لعقود كثيرة مقبلة. باختصار ان آخر ذرة من (السيادة) - كما عرفها القانون الدولي والممارسات المستقرة - سقطت، وأصبح النظام العراقي فاقد الأهلية أمام شعبه ومعزولا عن العالم. وبدأ العد العكسي لانهاء سيادة النظام العراقي على غالبية أرض العراق.
القراءة الحقيقية للبيان انه لم يعد أمام النظام في العراق الكثير من الوقت ولا يستطيع أن يشتري وقتا مضافا على ما استهلك منه حتى الآن.
تسربت معلومات مباشرة بعد صدور البيان من أن الدول التي وافقت عليه خصوصا الدول الدائمة العضوية كانت أمام مرحلة تاريخية صعبة، فقد حذرت الولايات المتحدة، ومن خلف الكواليس، بأن عدم الاتفاق على قرار دولي تجاه العراق سيعرض الأمم المتحدة إلى مثل ما تعرضت له سميتها الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، وهي عصبة الأمم، فقد وقفت الأخيرة مكتوفة الأيدي أمام عدد من الانتهاكات الدولية أعجزتها عن الفعل مما تسبب في الإطاحة بتنظيمها الكامل، وظهرت بعدها الأمم المتحدة التي قادت بنجاح نسبي الأمن العالمي بعد الحرب الثانية حتى اليوم. كان التهديد الأميركي جدّيا، وخصوصا بعد الانتخابات النصفية الأخيرة في الولايات المتحدة في مطلع الشهر الجاري التي وفّرت للرئيس بوش وادارته تفويضا شبه كامل لتنفيذ سياساته التي يراها، كما أرسلت رسالة إلى كل الدول تؤكد فيها أن الولايات المتحدة جادة فيما تسعى إليه.
الاحتمالات الممكنة بعد ذلك كثيرة ومتعددة، منها أن يقوم العراق في الأسابيع المقبلة بالتعاون الكامل مع كل فقرات القرار الجديد والمتشعب، ولكن الاحتمال الأكثر قربا إلى الواقع هو الفشل في التطبيق، إذ أن القرار الذي صيغ كي يعجز العراق عن تنفيذه حتى لو أراد، وهو بالتأكيد لا يريد أن يفعل ذلك بناء على ماض طويل من المناورات السياسية والتسويفات، ومحاولة شراء بعض الأنظمة أو الناس أو الوقت. فاحتمال الفشل وارد وهو أقرب من احتمال النجاح.
ركز الاعلام العراقي في الأشهر القليلة الماضية على أن استهداف العراق هو استهداف للمنطقة، وهي مقولة كثيرا ما ترددت في الاعلام العراقي أو التابع إليه، أو على لسان الساسة العراقيين، وما كان ذلك إلا ضربة سيف في الماء، فقد جاء تصويت سورية في مجلس الأمن لصالح القرار الأخير ليسقط مقولة الاعلام والساسة العراقيين تماما، وتابعت وسائل الاعلام الغربية الموقف السوري، وهي العضو في مجلس الأمن في هذه الدورة، أكثر مما تابعت أي موقف آخر من أعضاء مجلس الأمن الحاليين، لسبب واضح هو معرفة ردة فعل بعض الدول العربية، وقد تفهمت كثير من هذه الدول التيار الدولي الكاسح ضد العراق الذي لا تستطيع أن توقفه وإن أرادت ذلك.
مما رشّح من معلومات إبان المعركة السياسية الشرسة التي دارت خلف أبواب مغلقة في الأسابيع القليلة الماضية، واحتاجت إلى اقناع وأيضا إلى ليّ أذرع ومكالمات دولية على أرفع مستوى، أن العراق لن تمس في المستقبل حدوده الدولية. ومن المفارقة أن حدود العراق الدولية في الشمال قررت من قبل عصبة الأمم المتحدة، وفي الجنوب قررت من قبل الأمم المتحدة، فهذه الحدود ووضع الدولة العراقية الحالية لن يتغير، هذا ما قاله بعض أعضاء مجلس الأمن نقلا عن تأكيدات من الولايات المتحدة، وهو بحد ذاته مؤشر على أن الأمر أكبر من لجان تفتيش.
القرار الأخير لمجلس الأمن قد يكون ظاهريا هو «حل وسط» بين ما أرادته الصقور في الإدارة الأميركية وما أراده بعض المستشارين ومنهم مستشارو بوش الأب مثل جيمس بيكر وبيرنت سكوكروفت، وأيضا من بين الأصدقاء والحلفاء مثل رئيس الوزراء البريطاني ورئيس الجمهورية الفرنسي، إلا أن صيغته التي ظهر بها لا تدع مجالا للشك في أن رأي الإدارة الأميركية هو الذي ربح في نهاية المطاف، ولو بتنازلات قليلة.
المستقبل مشحون بالاحتمالات فالدول العربية لا تستطيع أن تفعل شيئا يذكر الآن، وهذا أيضا موقف معظم الدول الأخرى، فقرارات مجلس الأمن ملزمة لجميع الدول، والقول إن حربا يمكن أن تنشب هي تحصيل حاصل، إلا أن التفكير في احتمالات أخرى قد يكون ممكنا.
فمن المحتمل وقد جاءت الرسالة واضحة وجلية، أن يتخلى الرئيس العراقي والنخبة القليلة حوله عن السلطة باتفاق دولي ويعمل لها منذ الآن. وعلى رغم مثالية هذا المنحى فربما يجد هذا المخرج قبولا دوليا وحتى أميركيا في الأسابيع الأولى، ولكن إذا تأخر هذا الخيار فسيكون من الصعب قبوله في الساعة الخامسة والعشرين، أما الاحتمال الآخر هو أن تقوم النخبة البعيدة نسبيا عن القرار في بغداد، وخصوصا النخبة العسكرية، بتسلّم السلطة، وهو احتمال وارد قد يتخوف البعض من أنه سيطلق الصراع الداخلي المكلف، ولكنه حتى لو تم فإن كلفته البديلة هي أقل على الشعب العراقي وقد يكون هذا الخيار أهون الشرور
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 67 - الإثنين 11 نوفمبر 2002م الموافق 06 رمضان 1423هـ