قبل الحرب العالمية الاولى كانت السلطة التنفيذية محدودة الاجهزة وذات عبء اخف بكثير على الناس. ولكن فيما بعد تلك الحرب ظهرت حركات قومية، بعضها كان متطرفا جدا، مثل النازية والفاشية، آمنت بضرورة الاسراع في التنمية الاقتصادية وان ذلك يتطلب وجود سلطة قوية تسيطر على الحياة العامة. غير ان تلك الحركات كانت ايضا السبب وراء دفع دولها باتجاه الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك أصبحت الحكومات اقوى بكثير من ذي قبل لأن منظومة الامم المتحدة قامت على اساس الاعتراف بعضوية الدول، وان ممثلي هذه الدول هي حكوماتها، المعترف لها بالسيادة الكاملة والمطلقة للدولة داخل حدودها الجغرافية.
صاحب ذلك انتشار موجة الاشتراكية وتأميم الصناعات، وشيئا فشيئا سيطر القطاع العام على اقتصاديات كثير من الدول. ومع الايام أصبحت الحكومات تكبر كما تكبر الشجرة، ولكن ثمرها يقل مع كبر حجمها، وإذا وجد ثمر تأكله هي بنفسها ولا تدعه يتساقط للآخرين (القطاع الخاص والمواطنين). وخلال العقدين المنصرمين وضحت الصورة اكثر ووجدت الدول نجاتها في تقليل العبء الحكومي الذي اصبح كـ «الفيل» يبتلع كل خيرات الموازنات العامة من دون ان «يطير»، على رغم الوعود بأنه سيحقق «صعودا» و«نموا» للاقتصاد.
هذا النمو اشبه بقطعة الاسفنج التي تبتلع الماء ولا تسمح له بالسريان، فكل الخيرات الاقتصادية تبتلعها اجهزة الدولة الضخمة ولا تسمح بوصولها إلى المواطن العادي. وعندما تسيطر الدولة على المجتمع والعائلة فإن الحياة تصبح جحيما لا يطاق. وعلى هذا الاساس فإن حركة الديمقراطية العالمية شجعت على تقليل البيروقراطية إلى النصف، وشجعت على تحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة (عبر الخصخصة) وشجعت على نمو الجمعيات الاهلية (مؤسسات المجتمع المدني) وكلها تصب في اتجاه إبعاد مخالب السلطة التنفيذية عن خنق المجتمع ومصادرة الخيرات.
غير ان تقليل البيروقراطية ليس بالامر السهل، وكثير من الدول تصبح في ورطة دائمة وتجد نفسها تزيد الاجهزة الرسمية ويزداد بذلك عدد الوزارات وعدد الوزراء والمديرين، وتزداد تكاليفهم من الموازنة العامة، ويزداد العبء على المواطن العادي. والانكى من ذلك، ان الحكومات أصبحت تناور لمنع فقد سيطرتها على الاقتصاد والمجتمع. فبالنسبة إلى الاقتصاد تمنع برامج الخصخصة السليمة، أو تحول تلك البرامج إلى مصالح للبعض بدلا من توفيرها للمصلحة العامة. اما على المستوى الاجتماعي فلجأ عدد من الحكومات إلى ايجاد جمعيات أهلية المظهر، ولكنها حكومية الجوهر. وهذا النوع من الجمعيات الاهلية تطلق عليها حركة حقوق الانسان العالمية عبارة (GONGO)، وهي اختصار للكلمات التالية (Government - Organised Non - Governmental Organisation) ومعناها بالعربية: المنظمة غير الحكومية التي تنظمها وتسيطر عليها الحكومة.
هذا النوع من المنظمات غير الحكومية اسوأ مظاهر المناورة الحكومية لابقاء سيطرتها على مؤسسات المجتمع المدني. وتتفنن حكومات كثيرة في إيجاد جمعيات اهلية وهمية تسيطر عليها وبالتالي تواصل سيطرتها على المجتمع. وهذا الاسلوب في التعامل مع المجتمع يعتبر من اسوأ الاساليب التي ترصدها حركة حقوق الانسان العالمية وتدينها. ونشاهد في البحرين وجودا لظاهرة الجمعية الاهلية التي تديرها اجهزة حكومية، ونشاهد كيف لعبت مثل هذه الجمعية ادوارا سيئة في قمع حرية الكلمة . كما ان بعض الحكومات ترسل بجمعياتها التي صنعتها إلى المحافل الدولية للادعاء بأنها تمثل المجتمع. إلا ان واقع هذه الجمعيات في عصر الشفافية مفضوح.
ان تقليل هيمنة السلطة التنفيذية على الاقتصاد وعلى المجتمع هو السبيل الذي يحقق لنا نموا اقتصاديا ويعزز لنا حال الانفتاح السياسي، ولذلك فإننا ندعو السلطة التنفيذية إلى تحسين ادائها عبر تقليل عبئها على المجتمع وعبر الابتعاد عن لعب ادوار خفية او علنية للسيطرة على المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وندعوها إلى عدم التعرض لحرية التعبير عن الرأي الملتزمة بحكم القانون
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 67 - الإثنين 11 نوفمبر 2002م الموافق 06 رمضان 1423هـ