يضعنا الروائي النرويجي داغ سولستاد، في الحوار الذي أجرته آن فرسيتساس، ونشرته «باريس ريفيو أوف بوكس»، وترجمه مجدي عبدالمجيد خاطر، وظهر في العدد 112 من مجلة «الدوحة» القطرية، أمام معنى أن تكتب وتفكِّر بلغة واحدة: لغتك. ما الذي يحدث ساعتها؟ هل يكون مدى الكتابة الإبداعية قاصراً؟... ناقصاً؟ هل تملك كل لغة فضاءها الإبداعي الذي تراه كاملاً، أعني يراه ابنها/ ابنتها/ المنتسب إليها؟
سولستاد المولود في العام 1941، الذي خرج على العالم بمجموعته القصصية «اللولب» في العام 1965، تلك التي ترصد الواقع العبثي... الغارقة في موضوعة الطموحات الفردية، يظل على قطيعة مع التيار الأكثر حضوراً وهيمنة وسطوة في الرواية التقليدية الأوروبية، تلك التي لا يمكن أن يسقط من أسمائها كل من بيكيت، بروست وجويس، في محاولة منه، مع كثيرين طبعاً، للانعتاق من ذلك التيار، بحثاً عن الصوت المتمايز والخاص.
يبدو واقعياً فيما يكتب؛ حتى في تسميته للأشياء وتفاصيلها، يحضّنا على أن نمسك بلحظة تسميتها كما هي. لحظة وصفها كما هي أيضاً، في انحياز شفاف إلى مثل تلك اللحظات التي تمنح الكتابة قيمتها وشفافيتها وحرارتها وطزاجتها بالضرورة «علينا أن نصف الأشياء كما هي في الواقع، أن نقدّم دلة قهوة الصباح، التي نضعها على الطاولة بشكلها المعدني الأبيض، محتوية على سائل ساخن تفوح منه رائحة عطرة، لا أن نركّب لها أجنحة، ونحّملها ما لا تحتمل».
مركزية أدب وسط أوروبا
في الحوار المذكور يبرز سؤال يتعلق بتأثير الثقافة الألمانية على سولستاد، وخصوصاً أنه عاش فترة طويلة في برلين، يوم أن كانت ضمن الشطر الشرقي من المانيا، وهو الذي انتسب إلى الحزب الشيوعي في العام 1970، بعد انبهار بالثورة الثقافية في الصين، وتعلّقه بالماوية. يجيب سولستاد: «لا أتحدث إلا بلغة واحدة. وهكذا أعد نفسي كاتباً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة محددة. أجهل طريقة التفكير خارج اللغة النرويجية. وفي الوقت ذاته، يتجلَّى أن أدب وسط أوروبا كان له أعظم الأثر فيَّ».
مضيفاً «لا افكِّر - حقاً - بمسألة ما إذا كان الكتَّاب الذين أقرأ لهم ألماناً، أو فرنسيين، بولنديين، أو من أي جنسية أخرى. ما دمت أقرأهم مترجَمين. لكن الحقيقة هي أنني أعرِّف نفسي بوصفي أحد كتَّاب منطقة ما أدعوه وسط أوروبا، فروائيو وسط أوروبا، في أثناء العشرينيات، هم من ارتقوا بالرواية إلى أرفع مستوى».
في مقابل تلك الرؤية، ثمة تناقض يمكن الوقوف عليه من خلال تساؤل طرحه في إحدى كتاباته: «لماذا لم يهتم النقد الأوروبي يوماً بالنتاج الأدبي النرويجي»؟ ليجيب: «لأنه لم يستطع أن يحاكي هموم وانشغالات الإنسان، فبقي حبيس حدوده الجغرافية».
افتقرتُ... ربحت كل شيء
في تقديم فرسيتساس إشارة إلى أن أسلوب سولستاد الفريد وفَّر «جملاً طويلة، واستطرادات طافحة بالخيال، ممزوجة بخفة ظل عجيبة مشحونة بالدلالات، إلهاماً لأجيال من الكتَّاب».
ثمة إشارات أيضاً لما تمّت إضاءته من قبل كتَّاب عالميين من أمثال كارل أوفه كناوسجارد، الذي أوضح بأن لغة سولستاد «تتألق بتأنّقها، عتيق الطراز، والحديث، في الآن ذاته، وتسطع ببريق فذ ملؤه هِمَّة».
عن البدايات كان مفتتح الحوار مع سولستاد، انطلاقاً من روايته الأولى «اللولب»، والسؤال الذي لا يخلو من كمٍّ من السُخْف: كيف بدأت الكتابة؟ من بين الاستطراد في إجابته قال: «النرويج دولة صغيرة، وكنت جزءاً مما سمّي (انفجار الطلاب)، في الستينيات عندما بدأت تعبئة الجامعات من خلفيات متباينة، لا من البرجوازية الحضرية فحسب. كنت محظوظاً بما يكفي للقاء اشخاص يافعين، ومن أماكن بعيدة. داخل صحيفة (بروفيل)، ممن كانوا لا يزالون يقرؤون كل شيء، أو هكذا بدا الأمر لي. أحد الأصدقاء كان قد أوشك أن يصير طبيباً (وقد أعجبتْني أنه قد أغوى مدرِّسته الفرنسية)، لكنه كان مشتركاً، من واديه البعيد، في كل الصحف الطليعية، في شمال أوروبا. صديق آخر احترف الأدب كلياً، ولا يزال في التاسعة عشرة. كلنا كنّا بحاجة إلى حلبة نشبُّ داخلها، لكنني أستطيع القول إنني كنت الفائز الأكبر. بعض الآخرين كانوا مثقفين، لكنهم افتقروا إلى المتنفس، وإلى من يناقشونه. أما أنا فقد افتقرت إلى كل شيء... وربحت كل شيء».
يحضر الروائي والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في الحوار، انطلاقاً من الملكة والتمكُّن والاتقان منقطع النظير الذي اتسمت به أعمال إيكو، وخصوصاً في روايته التحفة «اسم الوردة»، حيث استعان سولستاد بها في أحد مقالاته. فرسيتساس تضمّن سؤالها بعضاً من ملامح «اسم الوردة»، حيث الحبكة المثيرة، والاستبصارات التاريخية، والشخصيات الشائقة، بحيث أصبحت الرواية بمثابة تحدٍّ هائل بالنسبة إلى الرواية التي يرغب سولستاد كتابتها. رواية قريبة من «اسم الوردة».
يجيب: «من يستطيع التغلّب على أمبرتو إيكو؟ بوصفك كاتباً، عليك أن تسأل نفسك عن ماهية الرواية التي يمكنك تقديمها مقارنة بهكذا قصة مُتقنة لأمبرتو إيكو. مع ذلك، لمَّا قرأت إيكو، راودني شعور بأن شيئاً ما ناقص. ربما كان صوتاً! سأقدِّم لك مثالاً خطر لي، للتوِّ، من مسرحية (براند) لأبسن: كان القس براند يطوف أرجاء الجبال، يصارع هواجسه الوجودية، فيخاطب الإله بجسارة غير معهودة... من يستطيع أن يفعل ذلك؟». ويضيف «ها هنا أبسن، من بين الكتَّاب كافة، هو من صقل صورته، بوصفه حكيماً عجوزاً، ولا يزال في الخامسة والثلاثين، بتلك اللحية السخيفة، لا يمكننا الاكتفاء بالقعود وكتابة مثل هذا الهراء، مع ذلك، لا تزال جرأته مدهشة، وأمبرتو إيكو لا يمكنه، أبداً، أن يصل إلى هذا الحد».
ضوء لابد منه
أنجز سولستاد أكثر من عشرين عملاً تراوح بين القصة والرواية والشعر والمسرح من بينها: «الكرسي الدوَّار»، وهي مجموعة قصصية صدرت في العام 1967م، ورواية «أخضر رمادي»، و «العار والكرامة»، رواية صدرت في العام 2008م. كل تلك الأعمال وإن عبَّرت عن طبيعة المجتمع النرويجي وقضاياه، إلا أنها منفتحة على الهم والقضايا الإنسانية، وإن بدت ضمن حدود لا تبرح القارة الأوروبية. أعمال تناولت القضايا السياسية والوجودية.
لفتت أعمال سولستاد اهتمام عدد من الأسماء الروائية المهمة في بلادها والعالم، من بينها الكاتب والمترجم النمساوي بيتر هندكه، والروائي الياباني هاروكي موركامي، والأخير «ترجم سولستاد إلى اللغة اليابانية»، وكذلك الروائية الأميركية ليديا ديفيز «التي علّمت نفسها اللغة النرويجية عبر قراءة روايته (Telemark) والتي تتألف من 400 صفحة».