أعلن نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم٬ عن إصداره الجديد بعنوان "تأملات في السعادة والإيجابية" وذلك بهدف صناعة الأمل ونقل التجربة والمساهمة في استئناف الحضارة.
كتابٌ وصفه محمد بن راشد في مقدمته بأنه كتاب سريع في عباراته، بسيط في كلماته، عميق في معانيه، يطرح محمد بن راشد رؤية مختلفة للعمل الإداري والتنموي والحضاري، رؤية قائمة على التفاؤل والإيجابية والثقة بالنفس والقدرات والثقة بالإنسان العربي.
كتاب يحاول فيه قائد بنى أحد أهم النماذج التنموية الناجحة في المنطقة والعالم أن يجيب فيه عن العديد من التساؤلات التنموية المعقدة بأسلوب قصصي قريب من الجميع وخاصة الشباب - الذين يستهدف الوصول لهم من خلال هذا الكتاب- ويضرب الكثير من الأمثلة والنماذج للإجابة على تساؤلات كثيرة .. كيف تم تحويل صحراء الإمارات لوجهة سياحية، كيف تم بناء مطار دبي الأول عالميا وسط رفض كبير من الانتداب البريطاني، كيف يقود مسيرة تميز حكومية غير مسبوقة عربيا وعالميا، وكيف ينظر للسياسة ويتعامل مع السياسيين، وما هي وجهة نظره في التعامل مع الإرهاب، وماذا يقترح على الحكومات والشعوب العربية لمعالجة التراجع الحضاري والاقتصادي والفكري.
كيف تم وضع الأساس لشارع الشيخ زايد في دبي وكيف تم تصوره، كيف يشكل محمد بن راشد فرق العمل وكيف يتعامل معهم، كيف يضع رؤيته وخطته.. كيف يقسم وقته ويجدد طاقته ويتفاعل مع أسرته ويتعامل مع أزمات تنموية دولية.
لماذا تركيزه على السعادة، والشباب والتسامح، وكيف يتعامل مع الإعلام الدولي، وكيف يبني ثقافة حكومية قائمة على الشكر والتمكين والتميز لجميع فرق عمله. ما هي الرسالة التي يوجهها للمسئولين الذي أسماهم "هادمي المعنويات" .. وكيف يخطط للمستقبل البعيد، وما هو توجيهه للقانونيين الذين يضعون التشريعات والقوانين التي تحكم حركة الناس والحياة في أي دولة.
هو كتاب يحاول من خلاله محمد بن راشد طرح تأملات إدارية وتنموية، ودروس مستفادة من تجربته وحياته .. تأملات قائمة على فلسفة مختلفة في الحياة .. الإيجابية كمنظور وإسعاد الشعوب كمحرك للجمهور ..
يقول محمد بن راشد في كتابه:
لعل ما تمر به منطقتنا العربية من نزاعات سياسية وصراعات مذهبية ودينية وتراجعات اقتصادية وتحولات اجتماعية يجعل الحديث عن مفهوم الإيجابية كأحد الحلول التنموية مستهجناً، ولكن في هذه العجالة أحببت أن أقول لإخواني العرب: لم لا نجرب أن نغير نظرتنا لبعض الأمور، ونتحلى بقليل من الإيجابية في تعاملنا مع التحديات التي تواجهنا، ونُبقي قليلاً من التفاؤل تستطيع الأجيال الجديدة أن تعيش عليه وأن تحقق ذاتها من خلاله؟
ما دمنا كعرب جربنا الكثير من النظريات والأفكار والمناهج، فلا ضير في أن نجرب أن نكون إيجابيين لبعض الوقت، الحروب يمكن أن تدمر البنيان، ولكن الأخطر منها الحروب التي تدمر الإنسان، وتقصف ثقته بنفسه، وتهدم تفاؤله بمستقبله، وتحيله إلى التقاعد عن إكمال السباق الحضاري والمنافسة العالمية".
سؤال يتردد كثيراً، وخاصة خلال السنوات الأخيرة في عمر الحكومة، لماذا التركيز على السعادة؟ لماذا أصبحت السعادة جزءاً مهماً من خطاب الحكومة ومن خطاب محمد بن راشد وضمن أجندة الحكومة ومبادراتها وأعمالها؟
سؤال يتكرر باستمرار.. سأحاول من خلال هذا الكتاب بإذن الله الإجابة عنه، وسيجد القارئ بأنني قرنت السعادة بالإيجابية وتوسعت كثيراً في تناول الإيجابية، مفهوماً وتطبيقاً، بطريقة سيلاحظها القارئ خلال الفصول التالية.
وللإجابة عن سؤال السعادة أولاً، أود أن أصارح القارئ بأنني، ومنذ زمن ليس بالقصير، كنت دائماً أطرح على نفسي سؤالاً بسيطاً، لكن فيه من العمق ما كان يجعل الإجابة عنه مسألة غير سهلة.
سؤال أحاول فيه تلخيص الهدف من جزء كبير من حياتي، الجزء المتعلق بدوري كقائد في دولة الإمارات وكحاكم لإمارة دبي، عملي الرسمي، أو ما أسميه حياتي.
ما هو دوري الحقيقي كقائد؟ ما هي وظيفتي الأساسية؟ أن أدير حكومة؟ ما هو دور الحكومة الحقيقي؟ هل دور الحكومة سن القوانين والسياسات وإنفاذها فقط؟ هل دورها هو حماية المكتسبات وحفظ الحقوق فقط؟ هل دورها هو توفير مقومات الحياة للمجتمع من صحة وتعليم وسكن وطرق وبنية تحتية فقط؟ ألا يمكن أن يكون لنا دور أكبر وأعمق وأكثر إلهاماً؟
نعم, يمكن أن يكون دورنا آعمق وأكثر تأثيراً وإلهاماً عندما نسعى لإسعاد الناس. دور الحكومات هو خلق البيئة التي يستطيع الناس من خلالها تحقيق أحلامهم وطموحاتهم وذواتهم، خلق البيئة وليس التحكم فيها.. نعم, وظيفة الحكومات تمكين الناس وليس التمكن منهم.. نعم, وظيفة الحكومات تحقيق السعادة.
هل يمكن أن نتخيل تأثير هذه الإجابة في مئات الآلاف ممن يعملون في الحكومات؟ أن يكون لوظيفتهم هذا المعنى العظيم، أن يكون لعملهم هذا الهدف الحضاري والإنساني العميق، أن يستيقظوا كل يوم وفي مخيلتهم وأمامهم هدف قريب من قلوبهم كبشر: كيف يمكن أن يساهموا في سعادة الناس؟
بعض البشر يقضون جل حياتهم وهم يعملون ضمن المنظومة الحكومية، عندما ينظرون وراءهم بعد 30 أو 40 سنة من العمل الحكومي، من حقهم أن يفخروا بأنهم قضوا جل حياتهم في سعي دائم لإسعاد البشر.
السعي لإسعاد الناس سعادة بحق ذاتها.. حتى في ديننا، فإن إدخال السرور على البشر من أعظم الأعمال، وخير الناس أنفعهم للناس.
هل يمكن أن نتخيل أيضاً تأثير هذه الإجابة في الشعوب عندما يؤمنون بأن الحكومة تسعى لخيرهم وسعادتهم، تسعى لتوفير الفرص لهم ولأبنائهم ليكونوا سعداء، تسعى لتمكينهم بالأدوات والمهارات لتحقيق أحلامهم.. هل يمكن أن نتخيّل وجود أي نوع من العداوات بين الحكومات وشعوبها إذا كانت العلاقة التي تحكمهم أساسها تحقيق السعادة؟
لسنا حالمين ولا مثاليين، ولسنا جدداً في الحديث عن السعادة. منذ فجر التاريخ والكل يطلب السعادة. أرسطو ذكر قبل 2400 سنة بأن غاية السياسة هي تحقيق السعادة، وذكر أن الدولة كائن حي يتطور ويسعى لتحقيق الكمال المعنوي والسعادة للأفراد، وابن خلدون كذلك. والدستور الأمريكي ينص، في مقدمته، على حق الجميع في السعي لتحقيق السعادة. بل إن هناك مطالبات من الأمم المتحدة بتغيير المعايير المعتمدة لقياس نجاح الحكومات، من معايير اقتصادية إلى معايير تتعلق بسعادة الإنسان. وخصصت الأمم المتحدة يوماً عالمياً للتأكيد على أهمية السعادة.
السعداء ينتجون أكثر.. ويعيشون أطول.. ويقودون تنمية اقتصادية بشكل أفضل وفق دراسات عدة.. أستغرب من استغراب البعض من حديث الحكومة عن السعادة. السعادة لها مؤشرات وبرامج ودراسات. السعادة يمكن قياسها، وتنميتها وربطها بمجموعة من القيم والبرامج؛ سعادة الأفراد، وسعادة الأسر، وسعادة الموظفين في عملهم، وسعادة الناس بحياتهم، وتفاؤلهم بمستقبلهم، ورضاهم النفسي والمهني والمجتمعي، كل ذلك يحتاج لبرامج ومبادرات في قطاعات الحكومة كافة، ولا بد من متابعة ذلك مع مختلف القطاعات والمؤسسات الحكومية. عندما نقول بأن هدف الحكومة هو تحقيق السعادة فنحن نعني ذلك حرفياً وسنطبقه حرفياً وسنسعى لتحقيقه بما يتناسب مع طموحات شعبنا وتطلعاته وعاداتنا وثقافتنا.
نعم، نحن نسعى لإسعاد الناس، وسيظل إسعاد الناس غاية وهدفاً وبرامج عمل حتى يترسخ واقعاً دائماً ومستمراً. لا توجد حكومة كاملة، ولا يوجد عمل دون أخطاء، ولكن الخطأ الحقيقي هو التخلي عن دورنا الحقيقي في إسعاد البشر، وما هذا الكتاب اليوم إلا محاولة للمساهمة في هذه الغاية، والله الموفق أولاً وآخراً.
نعم نحن نسعى لإسعاد الناس، وسيظل إسعاد الناس غاية وهدفاً وبرامج عمل حتى يترسخ واقعاً دائماً ومستمراً.
عندما استلمت رئاسة الحكومة الاتحادية في دولة الإمارات عام 2006، تلقيت الكثير من التهاني والتبريكات، وتلقيت أيضاً الكثير من النصائح، وبصراحة أيضاً التحذيرات من بعض الأصدقاء.
عودت الجميع على الصراحة معي، فجاءتني بعض المكالمات من أصحاب الخبرة والاختصاص كما يقولون. وبعد تردد منهم أوضحوا لي أنهم يتمنون لي التوفيق في المهام الجديدة ولكنهم لا يتوقعون الكثير؛ فخبرتهم تقول إن الحكومة روتينية، وبطيئة، وتواجه الكثير من المشكلات المالية والإدارية، ولديها تراكمات وديون، وشؤون وشجون، واحتياجات الناس كثيرة، وتلبيتها تحتاج لموارد وأموال وطاقات لا تتوفر بسهولة، والحكومات المحلية تسبق الاتحادية بكثير، وأمامكم طريق طويل، وتحديات تقترب من المستحيل، والكوادر غير مدربة، والمباني غير مجهزة، والخدمات أقل من التوقعات، والحكومة بحاجة للكثير من السياسات، والكثير الكثير من هذا الكلام الذي يقترب من قول الشاعر يهجو أحد الوجهاء:
دع المكارمَ لا ترحلْ لبُغيَتِها
واقعُد فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي
نعم، هم كانوا كمن يقول: لا تتعب نفسك، فالموضوع أصعب مما تتصور، وأكبر من أن تحاول، وتغيير الحال يقترب أن يكون من المحال!
هل تعرفون ماذا كان ردي عليهم؟ كنت أبتسم. فقط أسمع وأبتسم.
هل تعرفون لماذا كنتُ أبتسم؟ لأنني كنت أرى أشياء مختلفة. كنت أرى فرصة كبيرة أمامي لإنجاز شيء جديد في حياتي. كنت أرى الحكومة بعد سنوات ليست بالبعيدة حكومة من أفضل حكومات العالم. كنت أرى نعمة وأمانة وضعها الله بين أيدينا؛ أن نخدم الناس، وأن نسعد الناس، نسعد شعباً كاملاً.
بدأنا في بناء فريق العمل الوزاري، ووضعنا خططاً واستراتيجيات، وأطلقنـا رؤيـة 2021. تخلصنـا مـن كافـة ديـون الحكومـة، ووضعنـا مؤشرات للأداء، وأطلقنا برامج وجوائز لتحسين الجودة. دربنا آلاف الموظفين، ووضعنا برامج لقيادات جديدة في الحكومة، ومنحنا ثقتنا للشباب. وحّدنا ونسّقنا الجهود الاتحادية والمحلية، وطورنا الخدمات، وعدّلنا الكثير من القوانين.
اليوم في عام 2017، حكومة الإمارات هي الأولى عالمياً في الكفاءة الحكومية، وطموحاتنا وصلت المريخ، وشعب الإمارات من أسعد الشعوب، ولله الحمد.
كنت أبتسم أمام السلبيين في بداية توليّ الحكومة لأنني لم أكن أرى مشكلات، بل كنت أرى فرصاً كبيرة ومجالاً للكثير من الإنجازات. بالتأكيد هناك تحديات، ولا يخلو أي عمل، صغيراً كان أو كبيراً، من العقبات والتحديات، والإنسان أمام التحديات لديه خياران: إما أن يقف ويتراجع، أو أن يبدع ويتجاوز. نحن في دولة الإمارات لم نتعود أن نقف. منذ عام 1971 لم نقف، ولن نقف.
التحديات هي في الحقيقـة فرصتنـا لإبـداع حلول جديدة، وللتفكيـر بطريـقـة مختلـفـة، ولاختـبـار طـاقـاتنـا وقـدراتنـا وصقـل مهـاراتنـا وإمكاناتنا، ولزيادة معارفنا وخبراتنا. عندما كان الناس يرون مشكلات كنت أرى فرصاً، وعندما كانوا يرون تحديات، كنت أرى مجالاً كبيراً للإبداع والإنجاز.
اتصـل بي أحد الشيوخ الأصدقاء بعد إطلاقنا مبادرة حكومية ضخمة، قال لي: طويل العمر بصراحة أنا كنت من الناس الذين لم يكونوا يتوقعون النجاح للحكومة. قلت له: ما زلنا في بداية الطريق.
الإنسان أمام التحديات لديه خياران: إما أن يقف ويتراجع، أو أن يبدع ويتجاوز.
التحديات هي فرصتنا للتفكير بطريقة مختلفة ولاختبار طاقاتنا وقدراتنا وصقل مهاراتنا وإمكاناتنا.
هناك حقيقة لا بد من ذكرها وتذكرها دائماً، وهي أن تجربة دولة الإمارات قامت منذ بداياتها على عدة مبادئ إدارية وقيادية وإنسانية، من أهمها التفاؤل بالمستقبل، وتوقع الأفضل، والثقة بالقدرات، والإيمان بالإمكانيات والتوكل دائماً على رب السماوات، وهذه كلها يجمعها مفهوم الإيجابية وتساعد على خلق السعادة. شخصياً، ترسخ لدي هذا المفهوم مما رأيته وسمعته وعشته مع الآباء المؤسسين الشيخ زايد والشيخ راشد، طيّب الله ثراهما.
من يصدق أن رجلين في خيمة في الصحـراء عام 1968 كان لديهما هدف بناء دولة متقدمة عالمية ومتطورة؟ من يتخيل أن رجلين كان لديهما التفاؤل والثقة الكافيان للنجاح في تحويل إمارات متصالحة يسودها النظام القبلي ويتنازعها العوز وقلة العلم إلى دولة مؤسسات وأنظمة وسلطات وقوات نظامية وتعليم نظامي وجامعات؟ وكل ذلك فقط خلال سنوات، بل أكثر من ذلك، لم يكن طموحهما بناء دولة المؤسسات فحسب، بل كانا يريدان مدنهما أن تكون كمدن العالم الكبيرة التي زاراها مرات قليلة. أليس كل ذلك تفاؤلاً وإيجابية؟
تخيلوا لو أن زايد وراشد كانا قائدين سلبيين، أين ستكون دولة الإمارات اليوم؟ تخيلوا لو أنهما جلسا يعددان المشكلات والعقبات وضعف الإمكانات، ويلتمسان العذر في قلة الإنجاز.
تخيلوا لو أن زايد وراشد كانت نظرتهما محدودة وطموحاتهما شخصية. تخيلوا فقط لو أن يومهما كان يبدأ من العاشرة صباحاً وليس من السادسة فجراً، بل أكثر من ذلك، تخيلوا لو أن زايد وراشد كانا يستسلمان لرأي الخبراء والمتخصصين الذين تعجز عقولهم عن استيعاب طموحاتهما الكبيرة. ولعلي هنا أضرب مثالين على ذلك.
في بداية الثمانينات أتى الشيخ زايد، رحمه الله، بمجموعة من الخبراء؛ كانت لديه رغبة في تخضير وزراعة أبوظبي وبعض الجزر التابعة لها. كانت لديه، رحمه الله، صورة نهائية في ذهنه لشوارع الإمارة وأشجارها يريد ترجمتها على أرض الواقع.
قال له الخبراء: هذا مستحيل؛ بسبب التربة الملحية، وشُحّ المياه، والظروف المناخية الصعبة، وغيرها من العقبات التي كانت لتبدو منطقية أمام أي قائد محدود الطموح، ضعيف الهمة والعزيمة، ولكنها لم تكن منطقية لزايد، رحمه الله؛ لأنه لم يكن من الذين يقتنعون بالحدود التي يضعها له الآخرون، وهذه إحدى صفات القائد الإيجابي.
التحديات والعقبات ليست نقطة النهاية، بل فرصة لإبداع حلول جديدة.
أبدع الشيخ زايد حلولاً أخرى، وأصلح التربة، وساق المياه من أماكن بعيدة، وزُرعت أبوظبي بغابات وأشجار كثيرة. حتى جزيرة صير بني ياس جعلها جنة، وتم اختيار زايد رجل البيئة على مستوى العالم في تلك السنوات.
كل صاحب حلم بدون إيجابية وثقة وتفاؤل هو من أصحاب التمنيات الفارغة والأوهام الضائعة؛ لأنه سيقف عند أول عقبة، ونحن لا نقف، نحن نبدع. هكذا تعلمنا وتربينا، هكذا عشنا وأدرنا حياتنا وبلادنا.
يحضرني أيضاً موقف آخر للشيخ راشد، رحمه الله، في أواسط الخمسينات. أراد الشيخ راشد توسعة خور دبي؛ لأنه كان يريد استقبال سفن أكبر في موانئه، وكان يريد استقطاب شركات أكبر للعمل في التجارة في بلده، وكان يريد نشاطاً ملاحياً يرسخ دبي مركزاً إقليمياً للتجارة.
جاء الشيخ راشد بالخبراء لإجراء دراسة لتوسعة الخور، وجاءت نتائج الدراسة باستحالة التوسعة نظراً للتكلفة العالية التي بلغت 600 ألف جنيه استرليني في ذلك الوقت، أي أضعاف دخل دبي بكاملها.
هل وقف الشيخ راشد عند نتائج الدراسة وآراء الخبراء؟ هل صرف النظر عن هذا المشروع الحيـوي لمستقبـل دبي لمجرد هذا الرأي؟ هنا يأتي تأثير الإيجابية في شخصية القائد؛ تأثير الإيجابية في اتخاذ قرارات مصيرية لمصلحة شعب كامل، ومستقبل أبنائه.
القائد الإيجابي يمكن أن يغير مجرى تاريخ دولته للأفضل إذا تحلّى بالثقة الكافية، والإبداع اللازم لتخطي العقبات.
لم يقف الشيخ راشد عند هذا التحدي، بل ابتكر حلولاً جديدة؛ فأصدر سندات الخور.كما موّل جزءاً آخر بطريقة مختلفة، حيث قام باستخدام الصخور والرمال المرفوعة من الخور في إضافة أراضٍ جديدة على ضفة الخور للاستفادة منها.
وهكذا، قبل أن تمر سنتان، تم إنجاز المشروع وتضاعفت حركة التجارة، وتغيرت الحياة في دبي للأفضل.
القائد الإيجابي لا يتوقف، والإيجابية ليست جديدة علينا في دولة الإمارات. الإيجابية هي صفة نتوارثها لأنها ساعدتنا على بناء دولتنا وبناء اقتصادنا وبناء تجربة عالمية ناجحة في جميع المجالات، ونريدها اليوم جزءاً رئيسياً من بناء الإنسان وبناء شخصية أبناء هذا الوطن وأجياله القادمة.
التحديات والعقبات ليست نقطة النهاية بل فرصة لإبداع حلول جديدة.
لم يكن الشيخ زايد من الذين يقتنعون بالحدود التي يضعها له الآخرون، وهذه إحدى صفات القائد الإيجابي.
القائد الإيجابي يمكن أن يغير مجرى تاريخ دولته للأفضل إذا تحلّى بالثقة الكافية والإبداع اللازم لتخطي العقبات.
لعل ما تمر به منطقتنا العربية من نزاعات سياسية وصراعات مذهبية ودينية وتراجعات اقتصادية وتحولات اجتماعية وهزائم علمية وحتى رياضية يجعل الحديث عن مفهوم الإيجابية كأحد الحلول التنموية مستهجناً وبعيداً عن الواقعية ومغرقاً في المثالية.
ولست هنا في معرض الحديث عن إصلاح هذا التراجع الحضاري الذي تمر به منطقتنا، فهذا يحتاج لبحث آخر مستقل، وجهد بحثي مكثف، وحلول عملية تتناسب مع خصوصيتنا الحضارية والثقافية والسياسية، ولكن في هذه العجالة أحببت فقط أن أقول لإخواني العرب: لم لا نجرب أن نغير نظرتنا لبعض الأمور، ونتحلى بقدر من الإيجابية في تعاملنا مع التحديات التي تواجهنا، ونُبقي قليلاً من التفاؤل تستطيع الأجيال الجديدة أن تعيش عليه وأن تحقق ذاتها من خلاله؟
ما دمنا كعـرب جربنا الكثير من النظريات والأفكــار والمناهـج، فـلا ضير في أن نجرب أن نكون إيجابيين لبعض الوقت، ونغيّر نظاراتنا السوداء لفترة من الزمن، ونكون إيجابيين حول بعض الأمور. ولعلي أقترح هنا أن نبدأ بتغيير نظرتنا لثلاثة أشياء كبداية.
أولاً، النظر بإيجابية لقدراتنا وإمكاناتنا: الثقة بالنفس هي أولى خطوات التغيير للأفضل. لا بد أن تتغير نظرة العرب بشكل عام لقدراتهم وإمكاناتهم. لا بد أن تكون لديهم ثقة أن بإمكانهم تغيير واقعهم، وتغيير العالم من حولهم، والإيمان بإمكانية تحولهم لقوة عظمى اقتصادياً وسياسياً وعلمياً خلال فترة بسيطة من الزمن. وهذا يتطلب قدراً كبيراً من الإيجابية في مؤسساتنا وشعوبنا وثقافاتنا، وشجاعة قلبية كبيرة ليترسخ اليقين فينا بقدرتنا على المنافسة في هذا العالم.
منطقتنا منطقة حضارات، نحن صنّاع حضارات. منذ آلاف السنين وأبناء هذه المنطقة منبع الحضارات وأصلها وقدموا الكثير للعالم. لماذا لا يستطيع أبناؤهم اليوم تكرار التفوق الحضاري نفسه الذي حققه أجدادهم، الذين ما زال تأثيرهم حاضراً معنا اليوم؟
انظروا مثلاً لتكنولوجيا الكمبيوترات القائمة على الرقمين صفر وواحد. الصفر خرج من عندنا ولدينا فضل في تقدم هذا العلم، لأن استخدام الصفر بشكله المعروف حالياً يعود إلى الحضارة الإسلامية التي قدّمته للعالم بشكل رياضي متطور على يد عالم الرياضيات الخوارزمي. حتى الأرقام الأجنبية الحالية أخذها الأوروبيون من العرب، ويقال إن حتى الحروف اللاتينية أصلها سامي وليس أوروبياً، لأنها فينيقية، والفينيقيون هم أبناء هذه المنطقة.
الحضارات الغربية الحديثة استفادت منا ومن علمائنا في علوم الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وهذه طبيعة الحضارات؛ أنها تتفاعل مع بعضها وتبني على علوم من سبقوها، وتبدأ من حيث انتهت عقول وأفكار من جاؤوا قبلها. نحن أبناء هذه المنطقة قدمنا الكثير من الإبداعات والابتكارات للعالم، ونستطيع اليوم أيضاً أن نقدم شيئاً جديداً ومختلفاً للعالم مرة أخرى. تنقصنا فقط الثقة بالنفس، وتغيير ثقافة الأجيال الجديدة لتنظر بإيجابية لتاريخها وقدراتها وإمكاناتها وطاقاتها الهائلة الكامنة فيها.
ثانياً، النظر بإيجابية للمستقبل: أنا أستغرب من كمية التشاؤم الكبيرة الموجودة في الكثير من الدول العربية، وخاصة في منتجاتها الفكرية والإعلامية والدرامية. بل للأسف أبدع الكثير من شعوبنا في صياغة الأمثال التي تدعو للإحباط، وتقلل من إمكانية تغيير المستقبل، مع أن التفاؤل جزء من ثقافتنا وجزء من ديننا أيضاً.
كان العرب في الجاهلية إذا أرادوا السفر نفروا طيراً، فإذا طار يميناً تفاءلوا وإذا طار شمالاً تشاءموا. وللأسف ما زال البعض لدينا يعيشون في تلك الجاهلية.
انظروا لدول مثل اليابان وألمانيا، خرجت مدمرة تماماً من الحرب العالميـة الثانيـة، ملايين القتلـى، وخراب شامــل في البنية التحتية، وخلال عشرات السنين أصبحت تقود اقتصاد العالم! لم ييأس أبناؤها، بل تعاونوا وتكاتفوا، وكانت لديهم ثقة بالنفس وإيمان بالقدرة على صنع المستقبل، وعملوا بجد واجتهاد حتى وصلوا.
الحروب يمكن أن تدمر البنيان، ولكن الأخطر منها تلك التي تدمر الإنسان، وتقصف ثقته بنفسه، وتهدم تفاؤله بمستقبله، وتحيله إلى التقاعد عن إكمال السباق الحضاري والمنافسة العالمية.
في الإمارات كنا قبائل متفرقة، غير متعلمة، في صحراء قاحلة، واليوم نحن دولة عالمية متقدمة لأن ثقتنا بالمستقبل منذ البداية كانت تزيدنا إصراراً على العمل بشكل أفضل وأسرع وأكبر. وكلما تحقق إنجاز، ولو كان صغيراً، كانت هذه الثقة تكبر مع الأيام ومع الإنجازات، والفضل والحمد لله وحده على هذه النعمة.
ثالثاً، التوقف عن الانتظار: كثير من العرب لديهم عقدة الانتظار، ينتظرون صلاح الدين، وينتظرون معجزة تهبط من السماء ليتغير حالهم، وهذا مخالف لقوانين الكون التي وضعها رب العالمين: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. الله سبحانه وتعالى يقول اعملوا، لم يقل انتظروا حتى نرسل لكم معجزة.
لا بد لكل واحد منا أن يعمل ويجتهد. لا بد لكل دولة أن تبتكر في مشاريعهــا، وتنطلق في مبادراتهـا، كـل وزارة ومؤسسـة وشركة لا بد أن تعمل وأن يكون لديها طموح عالمي. كل شخص لا بد أيضاً أن يعمل بإخلاص وإتقان واجتهاد. لا بد أن نعمل ونستمر في العمل، وأن يكون لدينا طموح كبير، وثقة بأننا نستطيع تغيير واقعنا، ونستطيع أيضاً أن نغير العالم.
نحن في الإمارات لدينا تجربة مميزة في بناء حكومة ناجحة ومؤسسات قوية واقتصاد متنوع، ومستعدون لمشاركة خبراتنا مع أية دولة أخرى. هناك دول كثيرة أيضاً لديها خبرات في مجالات قد تكون طبية أو علمية أو صناعية أو غيرها، لا بد أن نستفيد ونتعلم من بعضنا، ولا ننتظر المستقبل.
البعض ينتظر أن يتوحد العرب أولاً، والبعض ينتظر أن تنتهي الحروب أولاً. أسوأ شيء نفعله هو أن ننتظر لأن الانتظار هدر في الطاقات، وضياع للسنوات، وفوات للكثير من الإنجازات.
منذ آلاف السنين وأبناء هذه المنطقة هم منبع الحضارات وأصلها وقدموا الكثير للعالم.
أخطر الحروب تلك التي تدمر الإنسان، وتقصف ثقته بنفسه، وتهدم تفاؤله ، وتحيله إلى التقاعد عن إكمال السباق الحضاري.
أسوأ شيء نفعله هو أن ننتظر؛ لأن الانتظار ضياع للسنوات، وفوات للإنجازات.
الله سبحانه وتعالى يقول اعملوا، لم يقل انتظروا حتى نرسل لكم معجزة.
قرأت مقالـة في إحدى الصحـف الأجنبيـة عن دبـي، تحـدث فيها الكاتب عن “ابتسام الحظ” مرة أخرى لدبي، وعودة الزخم الاقتصادي والاستثماري إلى سابق عهده.
التقيت قبل فترة إحدى بناتي المواطنات في أحد المراكز التجارية، فسألتها عن عملها ووظيفتها. فقالت: “ما لي حظ في الوظائف المميزة. أعمل في وظيفة بسيطة هي كذا وكذا”، وسمّت وظيفتها.
تلقيت رسالة على بريدي من أحد الشباب يريد مساعدة في ديون تراكمت عليه، فوجهنا بعمل اللازم. ولكن لاحظت في رسالته قوله إنه “جرب نفسه في مشروع تجاري ولكن لم يحالفه الحظ”.
أسمع بشكل يومي تقريباً، بشكل مباشر أو غير مباشر عن “الحظ”، وأرى أيضاً أناساً يتعلقون به ويغرمون بالمقامرة من أجله، وبعضهم يقضي سنوات من عمره انتظاراً لابتسامة مشفقة من هذا الشيء الذي يسمونه حظاً.
كثيرون ينتظرون تغير الظروف، وتبدل الأحوال، وتحسن الأجواء، حتى يحققوا النجاح في حياتهم. ينتظرون الحظ ليزورهم. ينتظرون الفرصة المناسبة، والوقت المناسب، والشخص المناسب الذي سيحقق لهم أحلامهم وطموحاتهم ويغير لهم حياتهم!
الإنسان الإيجابي نظرته مختلفة للحظ. هو لا ينتظر الحظ بل يصنعه. لا ينتظر ابتسامة الحظ له، بل يبتسم هو للحياة ويسعى منطلقاً خلف أحلامه وطموحاته. يعرف الإنسان الإيجابي أنه سيلاقي الحظ والفرص والنجاح عندما ينطلق بأقصى طاقته خلف أحلامه وطموحاته، عندما يبدأ يومه مبكراً، عندما يضع خطة لنفسه ويبدأ العمل عليها دون تسويف أو تأجيل. يعرف الإنسان الإيجابي أن الحظ لا يصنع الرجال، بل الرجال هم الذين يصنعون الحظ.
يقولون إن دبي ابتسم لها الحظ، وتهيأت لها الظروف، وتغيرت الأحوال لمصلحتها. وأنا أقول: عندما يريدون التقليل من مجهوداتك فإنهم ينسبون نجاحك للحظ.
دولة الإمارات ودبي قصة مليئة بالعمل والجد والاجتهاد والكفاح ومقاومة أقسى الظروف. بيوتنا كانت بلا ماء أو كهرباء قبل عقود قليلة، وشوارعنا كانت عبارة عن طرق ترابية تغطيها كثبان تحركها الرياح، ومدارسنا عبارة عن كتاتيب تحت الشجر والعريش، وميناؤنا كان مرسى صغيراً في خور مياهه ضحلة، وحتى مطارنا الصغير كان عبارة عن مدرج ترابي حتى بداية الستينات.
هل بنت دبي والإمارات نفسها صدفة؟ هل حدثت معجزة وتغيرت الأمور فجأة، أم كانت هناك تضحيات ومجهودات، وأعمار أفنيت، ورجال بذلوا أنفسهم من أجل هذا البناء؟
كي أجيب عن هذا التساؤل دعوني أحكي لكم يوماً في حياة مؤسس دبي الحديثة الشيخ راشد، رحمه الله. كان يبدأ يومه مع خيوط الفجر الأولى، يتوضأ ثم يصلي ويذكر ربه، وينطلق في شوارع المدينة وأزقتها حتى قبل أن يتناول طعام إفطاره. عندما كان الناس نياماً كان هو مستيقظاً يشاهد العمال مع خيوط الصبح الأولى ينطلقون نحو أعمالهم، يشاهد مدينة دبي، كيف تستيقظ وكيف تبدأ يومها، وكيف تبدأ الحركة في أرجائها.
كانت ساعات الصباح الأولى ساعات فكر وتخطيط وصفاء. وكثيراً ما شاهده الناس يمشي بينهم ويسألهم عن أحوالهم وأعمالهم حتى قبل أن يستيقظ كبار الموظفين والمسؤولين والتجار.ثم كانت له جلسة صباحية في أول النهار على مقاعد خشبية أمام مجلس زعبيل ليناقش ما شاهده في جولته بعد الفجر مع المعنيين ومدراء المشاريع. لم يكن ينتظر التقارير، بل كان يطّلع عليها مباشرة من واقع الناس.
كان ، رحمه الله، يرجع لبيته في الثامنة لتناول فطوره الذي كان بسيطاً كشخصية ذلك القائد العظيم، كان تمراً وحليباً وما تيسر من أصناف أخرى، ثم يتوجه إلى مكتبه ويقضي نهاره في التخطيط للمشاريع الجديدة واعتماد الموافقات القائمة، واستقبال الوفود من التجار أو المواطنين، أو وفود الشركات الأجنبية أو غيرها، حتى إذا جاء الظهر أمر بالغداء ثم أخذ قيلولة لا تتعدى الساعة، قبل أن ينطلق عصراً لتفقد المشاريع ومتابعة العمل مع المقاولين بنفسه، حتى إن كثيراً من الشركات كانت تلقبه بالمهندس أو “الفورمن” - كبير العمال - لكثرة تواجده معهم ومتابعته اليومية لحجم الإنجاز في جميع المشاريع. كما كانت له، رحمه الله، جلسة أخرى في الفترة المسائية.
دبي لم تُبنَ بالحظ أو بالمصادفة، بل بُنيت بسهر الليل وبعمل النهار. بُنيت بجهود رجال لم ينتظروا الظروف أن تتحسن، بل طوّعوا الظروف لخدمة طموحاتهم. لم ينتظروا الأحوال أن تتبدل، بل آمنوا بأنهم يستطيعون تبديل أحوالهم للأفضل.
لو انتظرت دبي ابتسام الحظ لها، كما تقول بعض الصحف والمقالات الإعلامية، لما وصلنا إلى عُشر ما نحن فيه.
انتقالنا من مطار صغير بمدرج ترابي عام 1960 ليكون مطارنا الأكثر إشغالاً بالمسافرين الدوليين على مستوى العالم عام 2014 ليس ضربة حظ. انتقالنا من مرسى صغير على خور دبي لتكون موانئنا بين الأكبر عالمياً ولتدير شركتنا الحكومية للموانئ أكثر من 66 ميناء حول العالم ليس أيضاً ضربة حظ.
انتقالنا من شوارع عبارة عن طرق ترابية كونتها السيارات في الكثبان الرملية لنكون الدولة الأكثر جودة في بنيتها التحتية على مستوى العالم بشهادة أكبر المؤسسات الدولية ليس ضربة حظ.
نحن لم نوجد مصادفة، ولم تخلقنا الظروف المحيطة بنا. نحن صنعنا ظروفنا وصنعنا نجاحنا. ولا أقولها تفاخراً أو رداً على مقالات إعلامية، بل أقولها لتستمر أجيالنا بنفس الروح وبنفس الإصرار وبنفس العزيمة في هذا الطريق. أكبر حظ حصلنا عليه هي الروح القتالية وروح التحدي التي تسري فينا.
أقول للشباب وللأجيال: إذا كنا إيجابيين فلا بد أن نغير نظرتنا لمفهوم الحظ. الإنجازات والنجاحات ليست ضربة حظ، بل جد واجتهاد واستعداد وإيمان.
وأقول لشبابنا: السماء لا تمطر ذهباً، والأرض لا تخبئ لكم كنوزاً، والفرص لا تنتظر من يستيقظون متأخراً. أقول لشبابنا حظكم الحقيقي ليس ما تحصلون عليه من مكافآت بل ما أعطاكم الله من مواهب وقدرات وطاقات وإمكانات.
الإنسان الإيجابي لا ينتظر ابتسامة الحظ له، بل يبتسم هو للحياة ويسعى منطلقاً خلف أحلامه وطموحاته.
الحظ لا يصنع الرجال، بل الرجال هم الذين يصنعون الحظ.
يقولون إن دبي ابتسم لها الحظ. وأنا أقول: عندما يريدون التقليل من مجهوداتك فإنهم ينسبون نجاحك للحظ.
أقول للشباب وللأجيال: إذا كنا إيجابيين فلا بد أن نغير نظرتنا لمفهوم الحظ. الإنجازات والنجاحات ليست ضربة حظ، بل جد واجتهاد واستعداد وإيمان.
أكبر حظ حصلنا عليه هي الروح القتالية وروح التحدي التي تسري فينا.
عنوان هذا الفصل ليس من كلامي، بل هو من كلام المؤسس، طيب الله ثراه، الشيـخ زايـد بن سلطـان آل نهـيـان. كـانت هـذه كلمتـه الرئيسة عندما يلتقي جمعاً من الناس في محفل عام، ولعل البعض سمعها عبر التلفاز مرات عديدة “شكراً لكم أيها الشعب”.
كان الشيخ زايد، رحمه الله، في الحقيقة هو من يستحق الشكر الجزيل لأنه سخر حياته لتأسيس دولة الاتحاد وتغيير حياة شعب كامل من ظروف قاسية وشديدة إلى حياة الرخاء والرفاهية خلال سنوات معدودة، ولكنه كان، رحمه الله، هو من يشكر الناس، وقبل ذلك كان دائماً ما يردد أننا لا بد أن نحمد الله ونشكره دائماً على نعمه وفضله علينا، وأن نؤدي حق الله فيها للحفاظ عليها.
لماذا كان الشيخ زايد يشكر الشعب في كل مناسبة؟ لا أعرف الإجابة تحديداً، ولكن ما أعرفه أن الشكر والقيادة شيئان متلازمان، لا يوجد قائد لا يشكر
الناس، ولا يجوز أن يكون قائداً من لا يشكر فريق عمله، و(لا يشكُرُ اللهَ من لا يشكُرُ الناسَ)، كما جاء في الحديث الشريف.
الشكر صفة أصيلة، ووصفة أساسية لتحقيق الرضا والسعادة، بل إن بعض الأبحاث الطبية أشارت إلى علاقة الشكر بتحفيز الطاقة الإيجابية للدماغ، ما يساعد الإنسان على الإبداع وعلى مزيد من الإنجاز، بالإضافة لتأثيرها في قوة مناعة الجسم. ولكن ما يهمني في هذا الفصل هو تطبيق مفهوم الشكر الإيجابي في بيئة العمل، وتعزيز التأثيرات الإيجابية لهذا المفهوم في المجتمعات والدول.
أولاً، لا بد من تغيير نظرتنا لموضوع الشكر في مؤسساتنا. الإيجابية كما عرفناها هي في تغيير نظرتنا لكثير من الأمور والمفاهيم حولنا. الشكر ليس مسألة شخصية تتعلق بطبائع المسؤول وأخلاقه، بل لا بد أن تكون عملية مؤسسية واضحة، لها أدواتها ومقاييسها ومواردها ومواعيدها وفرق قائمة عليها.
نستحدث بشكل مستمر أدوات ووسائل لشكر فرق عملنا كالجوائز والأوسمة والزيارات الشخصية لفرق العمل المنجزة، والتنويه الإعلامي بإنجازاتهم أمام المجتمع. كما أن من أدوات الشكر أيضاً، منح الثقة والصلاحيات للموظفين بالإضافة للترقيات وغيرها من المكافآت.
القائد الذي لا يمارس الشكر، هو قائد فقد الثقة بنفسه، لأن الشكر يتطلب شجاعة وقوة وثقة عالية.
لا بد أن نتذكر دائماً أننا عندما لا نشكر أعضاء فرق العمل فإننا نرسل لهم رسالة واضحة نضمن من خلالها بأن إنجازهم القادم سيكون أقل من الحالي.
ثانياً، القائد الإيجابي والناجح يشعر بالشكر والامتنان تجاه كل ما يمر به. يبدأ يومه وحياته بشكر الله. يبدأ صلاته بحمد الله، ومع كل لقمة أو شربة ماء يشكر الله، ومع إشراقة كل يوم يجدد شكره لله ولكل ما حوله. نشكر كل شيء. نشكر التجارب التي مررنا بها. نشكر التحديات التي تعلمنا منها. نشكر الظروف التي صنعتنا. نشكر الماضي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه. ونشكر الحاضر على السعادة التي نشعر بها. ونشكر المستقبل لأنه يعطينا دافعاً للاستيقاظ كل صباح ونفوسنا مليئة بالتطلع والطموح والاندفاع والإبحار في آفاقه الرحبة.
الشكر يفتح عيوننا على الكثير من الحقائق، ويجعلنا أقرب لإدراك الواقع، ويعطينا دافعاً كبيراً للاستمرار بكل قوة.
القائد الشكور يرى الأمور على حقيقتها لأنه قائد غير مغرور. وهو قائد قوي لأنه يستطيع التحكم بمشاعر النجاح في وقت الإنجاز، ولا تعميه تلك المشاعر عن رؤية الأمور على حقيقتها أو عن رؤية فضل الآخرين وجهدهم في تلك الإنجازات. وكلما ازددت شكراً لمن حولك، ارتفع في نفوسهم قدرك ومكانتك.
ثالثاً، من المهم جداً تعميق مفهوم الشكر في الحياة الشخصية لفريق العمل الذي نعمل معه. عندما يتحلى كل أعضاء الفريق بهذه الصفة فتأكد أن طاقاتهم وإنجازاتهم ستكون أكبر بكثير.
في كل صباح تنفس بعمق، واشكر الله على هذا اليوم الجديد، والهدية الجديدة، واستمتع بالحياة. دائماً قل شكراً، قلها لربك، قلها لنفسك، قلها لجميع من حولك. لا بد أن يتجدد شكرنا مع إشراقة كل يوم، لأن كل يوم هو هدية جديدة تستحق الشكر. في كثير من الأحيان، ننسى النعم التي نحن فيها، لأننا مشغولون بالنظر للنعم التي عند غيرنا.
وأخيراً أقول: لا بد أن يكون الشعب أيضاً شكوراً؛ شكوراً لربه ولنعم الله عليه ولفضله، شكوراً لظروفه، وشكوراً لنفسه وأيضاً شكوراً لقائده.
عندما تسود علاقة شكر متبادلة بين القيادة والشعب، تسود في المجتمع روح الخير والإيجابية والتماسك. والنتيجة تحقيق المزيد من الاستقرار والإنجاز والتفوق للجميع.
نشكر التحديات التي تعلمنا منها. نشكر الظروف التي صنعتنا. ونشكر الماضي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه.
لا يوجد قائد لا يشكر الناس، ولا يجوز أن يكون قائداً من لا يشكر فريق عمله.
عندما يسود الشكر بين القيادة والشعب، تسود في المجتمع روح الخير والإيجابية والتماسك
زارني قبل فترة ليست بالبعيدة أحد المسؤولين الغربيين، وبطبيعة الحال تطرقنا للأوضاع المتوترة - أو بالأصح المتفجرة - في منطقتنا العربية. وتحدث ذلك المسؤول عن أهمية التعامل مع الأخطار التي تواجه المنطقة وبخاصة خطر الإرهاب، وأشاد بدور الإمارات ودعمها للجهود الدولية في هذا المجال.
وبعد شكره، وبعد التأكيد أيضاً على استمرار جهودنا مع المجتمع الدولي في مكافحة هذه الآفة، ذكرت له أن التحدي الأكبر ليس ما تواجهه المنطقة اليوم بل ما ستواجهه خلال العقود المقبلة، وأن الخطر الأكبر ليس في مجموعات متطرفة هنا وهناك بقدر الفكر الذي يحرك هذه المجموعات والذي ينتشر يوماً بعد يوم. قلت له إن أهم سلاح لمواجهة الإرهاب ليس الجيوش والعتاد والمدرعات والطائرات، بل هو الأمل.
لدينا 200 مليون شاب عربي، هم بين خيارين: أن يفقدوا الأمل بمستقبل أفضل، وحياة أفضل، ليصبحوا فريسة للفكر المتطرف ووقوداً للصراعات المذهبية والطائفية العرقية في منطقتنا، أو أن يكون لديهم أمل حقيقي في المستقبل، وثقة كبيرة في حياة أفضل، وطاقة إيجابية لصنع بلد أفضل. لدينا خياران: إما 200 مليون شاب بطاقة إيجابية كبيرة يمكن أن يغيروا العالم للأفضل، أو 200 مليون شاب تتنازعهم قوى الإرهاب. انتهى كلامي معه.
لا بد من خلق أجواء إيجابية في عالمنا العربي. لا بد من تعزيز قيم الإيجابية والتسامح والتفاؤل بالمستقبل في عالمنا العربي حتى يستطيع الخروج من دائرة لا متناهية من الصراعات والتوترات التي لا يربح فيها أحد. لا بد من توجيه العقول والقلوب نحو صناعة الحياة وليس صناعة الموت، توجيهها نحو تعايش الحضارات وليس صراع الحضارات، نحو بناء المستقبل وليس التعلق بخلافات الماضي السحيق.
وبدأنا في الإمارات حراكاً لنشر هذه القيم والأفكار والمبادئ، عبر تغيير هيكلي هو الأكبر في حكومتنا، عينا فيه وزيراً للتسامح لترسيخ هذا المفهوم محلياً عربياً، ووزيراً للسعادة، ووزيرة شابة عمرها 22 عاماً للشباب، لنقل أفكارهم وتطلعاتهم وطموحاتهم.
الشباب العرب قادرون على تغيير الواقع للأفضل، الشباب الذين بنى أجدادهم إحدى أعظم الحضارات قادرون بكل تأكيد على إعادة البناء وتغيير الواقع بل ومنافسة العالم. شباب العرب توّاقون ومبدعون وقادرون متى ما توفرت لهم الفرص والبيئة الصحيحة.
في استطلاع رأي للشباب العرب تجريه إحدى الشركات العالمية سنوياً، تأتي الإمارات دائماً كوجهة مفضلة أولى للعمل والحياة، حتى قبل الوجهات الغربية المعتادة. لم نفعل شيئاً في الإمارات غير توفير البيئة الصحيحة والسليمة ليحقق الشباب أحلامهم وليدركوا طموحاتهم. لا أقول ذلك للتفاخر، بل أقول ذلك لأثبت أن هناك الكثير مما يمكن أن نفعله، وأن الأمل كبير في المستقبل.
أنا من المتفائلين دائماً، مهما كانت الظروف صعبة. وأنا من أنصار بث روح الإيجابية بشكل كبير في عالمنا العربي. نريد تغيير نظرة الشعوب لواقعنا. أنا لا أتحدث هنا عن إعطاء أمل كاذب ووهم للشعوب العربية. أنا هنا لأتحدث عن نظرة متوازنة للأمور. سؤالي هنا، هل حالنا اليوم كأمة عربية أفضل أم حالنا قبل خمسين سنة مثلاً، أو حتى قبل 25 سنة؟
خذ التعليم كمثال. كانت نسبة الأمية في العام 2005 في الوطن العربي 35%. الآن هي 19% فقط. معدلات التعليم ارتفعت. لدينا مئات الملايين من الشباب العرب المتعلمين والجاهزين للعمل والإنتاج. لماذا لا نتفاءل؟
لدينا التكنولوجيا التي لم تكن موجودة من قبل، وأصبحت المعرفة اليوم في متناول الجميع عبر الشبكات الإلكترونية، لماذا لا نتفاءل؟
اقتصادياً، الناتج الإجمالي للدول العربية تضاعف خمس مرات بين 1980 و2010؛ خمس مرات في ثلاثين عاماً حسب البنك الدولي. هناك تطور اقتصادي، لماذا لا نتفاءل؟
دخل الفرد بين 2004 و2011 في العالم العربي ارتفع 100%، أي خلال سبع سنوات زاد بمعدل الضعف، وذلك أيضاً حسب البنك الدولي، لماذا لا نتفاءل؟
الأمراض السائدة في السابق كالملاريا وشلل الأطفال وغيرهما من الأمراض الوبائية انتهت. في مجال الصحة نحن أفضل من قبل، لماذا لا نتفاءل؟
كانت الدول العربية سابقاً تقريباً كلها مستعمرة، الآن كلها تقريباً حرة، لماذا لا نتفاءل؟
كان التنقل بيننا صعباً جداً قبل عشرات السنين. لم توجد طرق وموانئ ومطارات. كنا نحتاج شهراً كاملاً للذهاب للحج. اليوم تستطيع أن تفطر في دبي، وتتغدى في القاهرة، وتتعشى في الرباط. لماذا لا نتفاءل؟!
كانت الأسواق بالنسبة للتجار هي أسواقهم المحلية المحدودة. اليوم العالم كله سوق للجميع، وانظروا لشركات الطيران الإماراتية مثلاً. لماذا لا نتفاءل؟
الحياة أصبحت أسهل، وأسرع، والفرص أصبحت أكثر وأكبر. لماذا لا نتفاءل؟
أنا متفائل؛ لأن لدينا طاقات كبيرة، وشعوباً متعطشة للتطوير والعمل والإنتاج والاستقرار.
البشر هم البشر في منطقتنا. الإنسان هو الإنسان نفسه الذي بنى الحضارات، وأسس الثقافات، وابتكر الاختراعات سابقاً، ولكن الذي تغير القيادات. أزمتنا الرئيسة في الإدارة الحكومية العربية، وكررت هذا الكلام قبل أكثر من 15 سنة. لدينا موارد عظيمة من كل الثروات، ولكن لدينا إدارة عربية ضعيفة؛ سوء إدارة في الاقتصاد، وسوء إدارة في السياسة، وسوء إدارة حتى في الرياضة.
هناك قادة أخذوا شعوبهم للفضاء، وقادة أرجعوا شعوبهم 50 عاماً للوراء. هناك قادة ارتقوا بشعوبهم لينافسوا العالم في جميع المجالات، وقادة جعلوا شعوبهم يتنافسون ويتصارعون، بل ويتقاتلون، حول من كان أحق بالسلطة قبل 14 قرناً؟!
الشباب اليوم بحاجة لنماذج من قادة ناجحين، يزرعون فيهم الأمل، ويوفرون لهم الفرص، وإلا سينجرفون خلف التعصب، والتطرف والإرهاب.
ما زلت متفائلاً بعالمنا العربي؛ لأن أغلب المؤشرات التاريخية تقول إنه يحاول النهوض. ولكن نحتاج فقط إلى إصلاح الإدارة العربية لننطلق بقوة، وننافس العالم.
لا بد من تعزيز قيم الإيجابية والتفاؤل في عالمنا العربي حتى يستطيع الخروج من دائرة لا متناهية من الصراعات والتوترات التي لا يربح فيها أحد .
الشباب الذين بنى أجدادهم إحدى أعظم الحضارات قادرون بكل تأكيد على إعادة البناء وتغيير الواقع بل ومنافسة العالم.
هناك قادة أخذوا شعوبهم للفضاء، وقادة أرجعوا شعوبهم 50 عاماً للوراء.
في لقاء جمعني بمجموعة من المفكرين والإعلاميين في إحدى ليالي رمضان المبارك، كنت في حوار مع أحدهم فقال لي: أكثر ما يعجبني فيك أنك رجل اقتصاد أكثر منك رجل سياسة، وقائد ميداني أكثر منك صاحب أفكار فلسفية. ابتسمت وقلت له: هذا يعتمد على تعريفك للسياسة وللفلسفة.
لا يمكنك أن تنجح في إدارة اقتصاد دولة دون أن تكون سياسياً بارعاً. ولا يمكن أن تكون ناجحاً في الميدان دون فكر ورؤية وفلسفة تقود عملك الميداني وتسبقه أيضاً.
ينظر الكثير من الناس للسياسة على أنها شيء سلبي، تسوده الألاعيب، وتتحكم فيه المصالح، وتغيب عنه الأخلاق. ولكني يمكنني أن أقول، وبعد سنوات طويلة قضيتها كرجل دولة وتعاملت خلالها مع الآلاف من السياسيين من أنحاء العالم كافة، إنه يمكن إنجاز الكثير من الخير للشعوب إذا كانت نظرتنا للسياسة نظرة إيجابية. أفكارنا حول السياسة هي ما يحكم تصرفاتنا وقراراتنا حولها. لا بد أن تتغير نظرتنا للسياسة، لأن مصير الأمم والشعوب بأيدي السياسيين.
عندما نركز على نقاط الاتفاق وليس الاختلاف تكون السياسة إيجابية، عندما نركز على ما يجمعنا وليس ما يفرقنا تكون السياسة إيجابية، عندما نركز على الأفكار والمصالح وليس على الأشخاص والطوائف والأعراق والأديان، تكون السياسة إيجابية. عندما تكون مصلحة الناس متقدمة على مصلحة الأحزاب والتيارات تكون السياسة إيجابية. كل شيء يعتمد على نظرتنا وأفكارنا حول السياسة.
يزعجني كثيراً التركيز على الأخطاء وما يفرق بين الأمم والشعوب في الكثير من وسائل الإعلام. أعرف أن الأخطاء، هي التي تجعل الصحف تبيع أكثر، وهي أيضاً مصدر الرزق لكثير من المحللين السياسيين، وهي أيضاً الأداة الرئيسية لكثير من السياسيين. ولكن السياسة الإيجابية الحقيقية هي في التركيز على الإيجابيات وتعظيمها والاستفادة منها والبناء عليها لما فيه منفعة شعوبنا.
ولننظر لمثال آخر. قادة مثل زايد وراشد وكيف كانت سياستهما الإيجابية مصدراً للخير لشعبهما، وأيضاً للكثير من الشعوب حولهما. يتبنى الكثير من الساسة مبدأ فرّق تسُد، وتبنى زايد وراشد مبدأ وَحّد تَقُــد. كان مبدأهما الوحدة دائماً. محلياً وخليجياً وعربياً. فأصبح زايد حكيماً للعرب، وبنى راشد مدينة تقوم على المبدأ نفسه هي اليوم فخر لكل العرب. فأي المبدأين أثمر خيراً؟ وأي المبدأين بقي في سجلات التاريخ؟
ذهب زايد وراشد وبقيت أفكارهما الإيجابية في السياسة، وبقيت ذكراهما الطيبة على كل لسان، وبقيت إنجازاتهما شاهدة عليهما. وبقيت مدرستهما الفكرية في السياسة الإيجابية الحقيقية مصنعاً للقادة الذين يريدون الخير لشعوبهم. إذا نسيت فلا أنسى أبداً مقولة زايد رحمه الله: “نحن لسنا مخلدين، والمال ليس دائماً. الذي سيبقى هو الوطن فقط، وما فعلناه من أجل هذا الوطن”.
السياسة الإيجابية هي مصالح ومنافع وفق أخلاق ومبادئ. أنت تحتاج لأن تكون سياسياً ليس فقط في علاقتك مع الدول الأخرى، أنت تحتاج لأن تكون سياسياً مع شعبك، مع فريق عملك، مع أسرتك، وحتى مع أبنائك الصغار. هناك لغة للحوار والتفاهم وأرضية للعيش المشترك، والمصالح المتبادلة أيضاً.
جانب آخر مهم أيضاً في السياسة، هو موضـوع التواصل. يقولون إن السياسة هي فن الممكن. وأقول إن السياسة هي أيضاً فن التواصل. إذا فهمت الشعوب بعضها، وفهمت ثقافاتها، وفهمت احتياجات بعضها، استطاعت أن تتبادل المصالح والمنافع في جو من الثقـة، وفي بيئة يسودها الاستقرار.
لا أريد أن أُتهم بأني غير واقعي. أنا أعرف أنه لن تكون هناك نهاية للمنافسة بين الأمم والشعوب، لأن سنّة الحياة هي التدافع بين البشر. ولا يمكن أن يتفق جميع الناس أيضاً، لأن سنّة الحياة الاختلاف بين البشر. هكذا خلقهم الله. ولكن يمكن الاتفاق على لغة حوار، ويمكن الاتفاق على مصالح، وحتماً يمكن الاتفاق على طريقة للعيش المشترك، لأن الله لم يخلقنا وحوشاً، بل خلقنا بشراً.
يتبنى الكثير من الساسة مبدأ فرّق تسُد، وتبنى زايد وراشد مبدأ وَحّد تَقُد. فأصبح زايد حكيماً للعرب، وبنى راشد مدينة هي اليوم فخر لكل العرب.
السياسة الإيجابية هي مصالح ومنافع وفق أخلاق ومبادئ.
لا بد أن تتغير نظرتنا للسياسة؛ لأن مصير الأمم والشعوب بأيدي السياسيين.
كثير من الأسئلة والتعليقات والمكالمات تلقيتها حول التغيير الهيكلي الحكومي الأكبر الذي أجريناه في دولة الإمارات، والذي تم على إثره تعيين وزراء للسعادة والتسامح والمستقبل ووزيرة للشباب بعمر الـ 22. البعض تناول التغييرات بالإعجاب، وهم كثيرون، وآخرون بالاستغراب، وفريق ثالث قارن التغييرات ببناء أطول برج وأكبر جزيرة، وكأن التغييرات جزء من حملة دعاية تقوم بها دولة الإمارات.
ولعلي أوجه خطابي اليوم للفريقيْن الأخيريْن .. لأشرح لهما بشكل مختصر لماذا غيّرنا؟
نحن غيّرنا لأننا تعلّمنا الكثير خلال السنوات الخمس الأخيرة؛ تعلمنا من أحداث المنطقة حولنا، وتعلمنا من دروس التاريخ، وتعلمنا أيضاً من جهود كثيرة بذلناها لاستشراف المستقبل.
علمتنا منطقتنا، وعبر أحداث رهيبة مرت بها في السنوات الأخيرة، بأن عدم الاستجابة لتطلعات الشباب الذين يمثلون أكثر من نصف مجتمعاتنا العربية هو سباحة عكس التيار، وبداية النهاية للتنمية والاستقرار.
علمتنا منطقتنا بأن الحكومات التي أدارت ظهرها للشباب، وسدت الأبواب أمامهم إنما سدت أبواب الأمل لشعوب كاملة. نحن لا ننسى أن بداية التوترات في المنطقة وما يُسمّى للأسف“الربيع العربي” إنما كانت لأسباب تتعلق بتوفير فرص للشباب وبيئة يستطيعون من خلالها تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.
نحن دولة شابة ونفخر بذلك، ونفخر أيضاً بشبابنا، ونستثمر فيهم، ونمكِّن لهم في وطنهم. وعيَّنا وزيرة شابة من عمرهم، وأنشأنا مجلساً خاصاً لهم، ونؤمن بأنهم أسرع منا في التعلم والتطور والمعرفة لامتلاكهم أدوات لم نمتلكها عندما كنا في أعمارهم، ونعتقد جازمين بأنهم هم الذي سيصلون بدولتنا لمراحل جديدة من النمو والتطور.
علمتنا السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الاوسط “الجديد” بأننا نحتاج أن نتعلم التسامح ونعلمه ونمارسه، أن نرضعه لأطفالنا فكراً وقيماً وتعليماً وسلوكاً، أن نضع له قوانين وسياسات ومنظومة كاملة من البرامج والمبادرات. نعم، تعلمنا ذلك من مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين والمنكوبين الذين رأيناهم في آخر خمس سنوات في هذه المنطقة بسبب التعصّب والكراهية وعدم التسامح الطائفي والفكري والثقافي والديني.
لا يمكن أن نسمح بالكراهية في دولتنا، ولا يمكن أن نقبل بأي شكل من أشكال التمييز بين أي شخص يقيم عليها أو يكون مواطناً فيها، لذلك عيّنا وزيراً للتسامح.
عندما كانت المنطقة في أزهى عصورها متسامحة مع الآخر ومتقبلة للآخر، سادت وقادت العالم.. من بغداد إلى دمشق فالأندلس وغيرها. كنا منارات للعلم والمعرفة والحضارة لأننا كنا نستند إلى قيم حقيقية تحكم علاقاتنا مع جميع الحضارات والثقافات والأديان من حولنا، حتى عندما خرج أجدادنا من الأندلس خرج معهم اليهود ليعيشوا بينهم لأنهم يعرفون تسامحنا.
نعم، تعلمنا من التاريخ أهمية التسامح، ولكن جاءت الأحداث الأخيرة في منطقتنا لتؤكد لنا أنه لا مستقبل لهذه المنطقة بدون إعادة إعمار فكري ترسخ قيم التسامح والتعددية والقبول بالآخر فكرياً وثقافياً وطائفياً ودينياً.
التسامح ليس فقط كلمة نتغنّى بها، بل لا بد أن تكون لها مؤشرات ودراسات وسياسات، وترسيخ سلوكي في مجتمعنا لنصون مستقبله ونحافظ على مكتسبات حاضره.
نحن دولة نتعلم كل يوم، ومع كل درس نتعلمه لا بد أن نأخذ قرارات نطوّر بها مستقبلنا. وبالحديث عن المستقبل ولماذا غيرنا اسم إحدى الوزارات لتكون أيضاً وزارة للمستقبل، أقول لأننا نتعلم أيضاً من المستقبل وليس فقط من التاريخ.
بذلنا جهوداً كبيرة في السنوات الأخيرة لاستشراف المستقبل، ولدينا خطط كبيرة وسياسات وطنية علمية وتقنية تتجاوز قيمتها الـ300 مليار درهم استعداداً لاقتصاد المستقبل، اقتصاد لا يجعل أجيالنا رهينة لتقلبات أسواق النفط ومضارباتها وعرضها وطلبها.
لا بد لحكوماتنا أن تفكر بما بعد اقتصاد النفط من اليوم. لا بد من إعادة النظر في المنظومة التشريعية والإدارية والاقتصادية بشكل كامل للابتعاد عن الاقتصادات المعتمدة على النفط. لا بد من وضع بنية تحتية تنظيمية ومادية قوية لبناء اقتصادات مستدامة لأبنائنا ولأبناء أبنائنا.
نعم، نحن مغرمون بالمستقبل وبما يحمله.. المستقبل يحمل تغييرات عظيمة، في الصحة وطرق التعليم وفي إدارة مدن المستقبل وفي الخدمات الذكية وفي التنقل المستقبلي وفي الطاقة المتجددة وفي الفضاء، ونحن وضعنا رهاننا في موجة التغييرات القادمة، واستثمرنا في أبنائنا، وتجربتنا مفتوحة للجميع للاستفادة منها.
لا أكتب ذلك تفاخراً أو إعجاباً بأية إنجازات، بل أكتبه لأرسل رسالة للمنطقة من حولنا بأنه بيدنا لا بيد غيرنا يأتي التغيير، منطقتنا ليست بحاجة لقوى عظمى خارجية لإيقاف انحدارها، بل لقوى عظمى داخلية تستطيع التغلب على موجة الكراهية والتعصب التي تضرب نواحي الحياة في الكثير من دول المنطقة.
أكتبه لأرسل رسالة بأنه لا بد للحكومات بأن تراجع دورها، دور الحكومات هو خلق البيئة التي يستطيع الناس من خلالها إطلاق إمكاناتهم وتحقيق أحلامهم وطموحاتهم وذواتهم.. وظيفة الحكومات خلق البيئة التي يستطيع الناس أن يحققوا فيها سعادتهم. نعم، وظيفة الحكومات هي تحقيق السعادة.
هذه هي الأسباب التي دفعتنا لإجراء ذلك التغيير الحكومي، وسنستمر في التغيير متى تعلمنا دروساً جديدة، لأن هدفنا هو خير الناس ومنفعتهم، هذا هو الثابت عندنا، وما سواه متغير.
التسامح ليس فقط كلمة نتغنى بها ، بل لا بد أن تكون لها مؤشرات ودراسات وسياسات ، وترسيخ سلوكي في مجتمعنا لنصون مستقبله ونحافظ على مكتسبات حاضره.
وظيفة الحكومات خلق البيئة التي يستطيع الناس أن يحققوا فيها سعادتهم ، نعم وظيفة الحكومات هي تحقيق السعادة.
و احنا كل ما تقدم الزمن تراجع بِنَا الحال
رجل قيادي له رؤية متميزة وبناءة تستفيد من كل وضع في المنطقة ليصبها في مصلحة بلاده التي نضب نفطها فسار بها لنجاحات تفوق دول النفط في المنطقة.