السلام عليكم، السلام على روحين توأمين. توأمان في الحب والشعر والحياة والموت: ففيما ارتحل جمعة الفيروز في 21 فبراير من العام 2001م، ارتحل أحمد راشد ثاني في 20 فبراير من العام 2012م... كأنهما المبتدأ والخبر، وبينهما جمع غفير من النقاط والحروف والكلمات... وبينهما علي العندل، سُقراط القصيدة الإماراتية الحديثة وضواحيها... الراحل بقصته وقصيدته، في 5 يونيو من العام 2004م.
توأمان في الأسئلة، والأمثلة، والمثل النبيلة: ففيما جمعة الفيروز تعثر في نومته الليلية ومات، تعثر أحمد راشد ثاني في ظهيرة الوقت ومات... كأنهما الشمس والقمر، كأنهما الصمت والهمس، وكأنهما الكلام الذي من فضة النجوم وزُرقة الهواء... يتناوبان، في حراسة القصيدة بقلب وقلم.
توأمان ترجَّلا تباعاً، لكنهما لا يسقطان من ذاكرة الوقت والوصال: ففيما نستحضر روح جمعة الفيروز في هذه الأوراق المباركة بالشعر، نستذكر روح أحمد راشد ثاني الذي لا يُنسى، ولا يتكرر، ويقبل القسمة على أكثر من اثنين.
أحمد راشد ثاني، رجلٌ أتذكره جيداً في تلك اللحظة التاريخية التي بلغني بها نبأ موته: ففيما كنت أضع اللمسات الأخيرة من الكتاب المعنيّ بجمعة الفيروز، تصلني رسالة نصية من الصديق الشاعر أحمد محمد عبيد: «الشاعر أحمد راشد ثاني في ذمة الله»!! تماماً، كما لو أن أحمد راشد ثاني، يدخل في المنطقة التي يقبع فيها جمعة الفيروز «بين احتراقات الذاكرة، واختراقات النسيان».
أحمد راشد ثاني: الذي منذ أيام كان يشاركنا استرجاع ذكرى جمعة الفيروز وعلي العندل، هو ذاته الذي نسترجع ذكراه بعد خمسة أعوام من الموت الذي لا يعتبر بأحد، مهما كبر شأنه، ومهما بلغ عمره.
أحمد راشد ثاني: الذي إذا غاب عنك افتقدته، وإذا رأيته بعد غياب كأنك تلتقيه بعد يومين من آخر لقاء. لأنه رجل لا يسقط من الذاكرة أبداً، مثل غيره من الأصدقاء النقيين. لا يسقط رقم هاتفه من ذاكرة الهاتف، وكثيراً ما انتابتني لحظات مليئات برغبة الاتصال به، للاطمئنان عليه، وللخوض في غمار الحديث معه في شئون الثقافة والكتب والأدب، من دون أدنى تفكير بأنه قد رحل ذات ظهيرة مؤلمة، حين عودته في نهاية مطاف رحلته اليومية من عمله في أبوظبي العاصمة.
أحمد راشد ثاني: لم أكن ألتقيه كثيراً، بل هي لقاءات نادرة، واتصالات غير متصلة وغير متواصلة، لكنها لقاءات مشحونة بالحب والمودة والعتابات الصادقة الصائبة. لقاءات تشيع بالطمأنينة والمرح. طمأنينة الحوار ومرح الكلام. كيف لا، وهو القائل الأبدي: (السبب، مشكلته في اسمه!). ويعرج بالقول إلى الهمس الضحوك: «إذا كنتَ أنتَ السبب عبدالله محمد، فمن المؤكد أن النتيجة اسم لامرأة»!
يا أحمد: فيما الرأس راسيةٌ/ في ردهة هتافاتها / وفيما صوتي، يعاركُ صوتكَ / همسي، يهامسُ همسكَ / صمتي، يصافحُ صمتكَ/ وفيما «جمعة الفيروز» نائمٌ، «بين احتراقاتِ الذاكرةِ واختراقاتِ النسيانِ»/ سمعتُ، والذِّمَّةُ، على المُسمعِ الآتي/ أن الطيورَ/ قد طارت بأرزاقها/ وإنَّكَ/ يا «أحمد»/ الطائر الذي طار/ منذ طائرين طريين/ منذ «جمعة الفيروز»/ ومنذ «علي العندل»/ ومنذ طائرتين طارئتين.
طِرْتَ يا «أحمد»: لا بريد لصوتك/ لا صوت لبريدك/ ولا صوتك البريدي/ في البردة الباردة...// طِرْتَ يا «أحمد»، منذ فضاءين فاضلين/ منذ جناحين ناجحين/ طِرْتَ/ ببيتين من قصيدتين قصيّتين،/ كما لو أنك «عباس بن فرناس»..// طِرْتَ يا «أحمد»، منذ دعابتين أليفتين: أَسْمَعُ وَأَضْحَكُ، أَضْحَكُ وأَسْمَعُ/ أَقْرَاُ وَأَضْحكُ، أَضْحَكُ وَأَقْرَأ.
يا «أحمد»: من يداعب الشعراء/ كأنت/ من جديد؟!
من يداعب الشعراء/ وأنت النائم/ في رعاية الله ورحمته؟!
يا «أحمد»: (رحمك الله، وطيب ثراك).