يقول الشاعر نزار القباني: وكيف أهربُ منه ُانه قدري... هل يملك النهر تغييراً لمجراهُ
لفت انتباهي ما تحدث به الرئيس التنفيذي السابق لبنك البحرين والكويت عبدالكريم بوجيري، في أمسية أقامتها جمعية البحرين للتدريب وتنمية الموارد البشرية للوقوف على تجربته من خلال ما تقلده من مناصب عدة في مختلف المؤسسات المالية والحكومية في البحرين، اذ يقول البوجيري: «هنا أن أول عتباتي على الدرب الطويل لرحلتي الناجحة لم يكن أمراً مخططاً له ولكن بسبب عامل خارجي لم يكن لي فيه يد بتاتاً». هذا القول جاء رداً على استسلامه لقرار والده بالبقاء على الدراسة بكلية العلوم الاقتصادية في جامعة حلب بدلاً من الهندسة إذ قال له: «إنك لا تدري ما هو الأفضل لك مستقبلاً، وعسى أن تكره شيئاً وهو خير لك».
إنه القدر كيف نقرأه؟ هل نعده حكماً نهائياً، أم أنه يمثل حالة هروب من المواجهة، وتعب التغيير، أم هي قناعة بأنه الأفضل من باب لعله خيراً، لكن هل يمتلك أحد منا قدره، وهل يتعارض ذلك مع حرية الاختيار والقدرة في التغيير، وهل نرتضي لأنفسنا أن تظلّ ريشة في مهب الريح أم ننهض ونقرر ماذا نريد؟ فالقدر هو الحقيقة التي تصنع حياتنا.
القدر من المسائل التي تناولها الكثير من علماء الدين وأصحاب الفرق الكلاميَة لتقريبها إلى الفهم، فالقدر في اللغة كما جاء في مختار الصحاح للرازي: من التقدير ومن القدرة، وقَدْرُ الشيء مبلغه، أما في الاصطلاح فإن القدر هو من صميم العقيدة الإسلامية فيذكر الشّيخ السبحاني في كتابه «الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل» في تفسير قوله تعالى: «إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر: 49) وفي «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا» (الأحزاب: 38)، «قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه، والحدّ الذي لا يتجاوزه من جانبي الزيادة والنقيصة». لذا كان الإيمان به جزءاً من هذه العقيدة وفقاً لما رواه الترمذي عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله (ص): «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره».
الخوض في القدر أمر ليس بالسهل وفقاً لما يشير إليه الإمام علي (ع) إذ يرد على رجل قد سأله عن القدر: فقال له: «بحر عميق فلا تلجه، ثم سأله ثانية فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، ثم سأله ثالثة فقال: سر الله فلا تتكلفه» لكنه في الوقت ذاته لما سأله الشامي، أكان مسيره إلى الشام بقضاء من الله وقدره ؟ قال له: «ويحك لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً».
فكيف نؤمن بالقدر وفي الوقت ذاته نمتلك حرية الاختيار، القدر كما يشير إليه الإمام الرّضا (ع) في قوله: «القدر هندسة، والقضاء إبرام». بمعنى خطّة محكمة مبرمجة مُسبقة للكون والخلق، والإنسان يكمن دوره في تنفيذ الخطة ضمن حدود إمكاناته، وحريته فهو كما يقال «مُخيّر بقدر ما يعلم، ومُسيّر بقدر ما يجهل» وفقاً للقاعدة «لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين الأمرين» لذا فإن الله منح الإنسان الإرادة الحرّة في الاختيار والعمل في الحياة والبناء والعمران على خطى الإيمان «ليقضي الله أمراً كان مفعولاً» (الأنفال: 42).
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 5292 - الجمعة 03 مارس 2017م الموافق 04 جمادى الآخرة 1438هـ