لم تكن المغنية الإيطالية الشهيرة داليدا (1933-1987)، أول المشاهير الذين يقررون إنهاء حياتهم بطريقة أو بأخرى، ولن تكون آخرهم. انتحارها أثار ضجة في عدد من الأوساط يوم حدوثه في 3 مايو/ أيار 1987. خبر الوفاة ذلك كان صادماً حينها، تناقله محبّو المغنية الشهيرة بكثير من الحسرة والاستغراب، ربما بسبب لامنطقيته، إذ كيف يمكن لفنانة بشهرتها وبنجاحها الذي استمر لعقود أن تقرر إنهاء كل ذلك بالكيفية التي فعلتها. كيف يمكن لها أن تؤكد عدم سعادتها بتلك الحياة الصاخبة بكل أضوائها وبريق النجومية الدائم فيها، بعبارتها الشهيرة التي اعتبرت دليل انتحارها والتي قالت فيها: «الحياة أصبحت غير محتملة... سامحوني».
داليدا التي عُرفت مغنية بوب وممثلة سينمائية منذ نهاية الخمسينات حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، قدمت منجزاً فنياً يتمثل في أكثر من 500 أغنية، غنتها بعدّة لغات هي: الإيطالية، لغتها الأم، إضافة إلى الفرنسية، والعربية والعبرية واليونانية واليابانية والإنجليزية والإسبانية والألمانية. عدا ذلك فقد كانت الفنانة الإيطالية من أوائل من صوروا أغانيهم بطريقة الفيديو كليب في فرنسا وكان ذلك في العام 1978. في السينما قدمت 12 فيلماً من بينهم الفيلم المصري «اليوم السادس» للمخرج يوسف شاهين.
لعلَّ الإنجاز الفني الأكبر الذي قدمته داليدا، عن غير قصد، جاء عبر سنوات عمرها التي لم تتجاوز 53 عاماً، والتي شكلت مادة أصلية تصلح، ربما دون أي تعديل أو تدخل من كاتب أو مخرج، لعمل سيرة ذاتية.
تم ذلك في مطلع العام 1999 حين قدم جزءاً من حياتها في عمل مسرحي، تلاه فيلم تلفزيوني عرض العام 2005، وأخيراً جاء الفيلم السينمائي «داليدا» موضع تقريرنا هذا العام (2016)، وذلك على يد الكاتبة والمخرجة الفرنسية ليزا ازولوس التي استعرضت من خلاله مسيرة النجاح المهني الذي حققته الفنانة الإيطالية الأصل المصرية المولد الفرنسية النجومية، كما استعرضت الجانب الآخر من حياة داليدا الذي كان على النقيض تماماً من ذلك.
يتطرق الفيلم لحياة داليدا الصاخبة، متناولاً بشيء من التفصيل إحباطاتها العاطفية، مرجعاً السبب في تعاستها إلى تلك الاحباطات، وإلى فشلها في تحقيق الاستقرار العاطفي وبناء أسرة وهو الذي ظل ملازماً لها طيلة حياتها.
يمر الفيلم مروراً سريعاً على طفولتها في حي شبرا المصري، يتطرق بشكل سطحي لعلاقتها مع والدها، ثم يسرد قصة نجاحها ماراً بمراحل كثيرة، محاولا جمع كل تلك المراحل والسنوات واستعراضها خلال مدة الفيلم التي لم تتجاوز الساعتين.
تلك الساعتان ربما هي ما جعلت الفيلم سطحياً في تناوله، استعرض بعضاً من أغاني الفنانة الراحلة، وتطرق إلى مغامراتها العاطفية، لكنه لم يتطرق لداليدا الإنسانة أو ليولاندا كريستينا جيجليوتي وكان هذا اسمها الحقيقي. لم نعرف حقيقة المعاناة والعذاب اللذين عاشتهما هذه المرأة، ولم نعرف الأسباب التي دفعتها لفعل كل ما فعلته فجلب التعاسة إليها وإلى المحيطين بها.
الفيلم وعلى رغم إنتاجه العالي الذي بدا واضحاً في تعدد مواقع تصويره التي شملت ثلاث دول هي: فرنسا وايطاليا والمغرب، وفي موازنته التي بلغت 15 مليون يورو، إلا أنه لم ينجح في تقديم تفسير مقنع لتعاسة داليدا، ولا لإقدامها على الانتحار؛ إذ لم تتعمق كاتبته في تحليل شخصية مغنية البوب الأولى عبر عقود ثلاثة، التي تجاوزت مبيعات اسطوانات أغانيها 170 مليون أسطوانة في جميع أنحاء العالم.
ركّز الفيلم على أن يولاندا المولودة في مصر لأبوين إيطاليين، عاشت حياتين متناقضتين؛ حياة مهنية حققت عبرها نجاحات لم تسبقها إليها فنانة من قبل، حتى حصلت على أوسمة وتكريمات لم تحصل عليها غيرها، عدا تكريم الرئيس الفرنسي شارل ديغول لها ومنحه إياها ميدالية رئاسة الجمهورية بسبب أدائها الرائع وصوتها المميز، وصولاً إلى قيام الحكومة الفرنسية بتكريمها بعد وفاتها؛ إذ وُضعت صورتها على طابع للبريد، كما أُقيم لها تمثال بحجمها الطبيعي على قبرها في العام 2001.
لكن في المقابل، وكما يشير الفيلم، عاشت يولاندا حياة خاصة مضطربة ومأسوية، بدءاً من طفولتها في حي شبرا بمصر مع والدها الذي تحول من موسيقي يمتلئ بالعواطف إلى رجل قاسٍ شوهت الحرب روحه حتى تمنت الطفلة الصغيرة يولاندا موته لتتخلص هي ووالدتها وباقي أفراد العائلة من قسوته وعنفه، وصولاً إلى الحياة العاطفية الصاخبة لكن المأسوية التي بدأت بانفصال داليدا عن زوجها ثم تنقلها من حياة عاطفية إلى أخرى، اتسمت جميعها بالفشل.
تلك المعلومات السطحية القليلة هي فقط ما تخبرنا به كاتبة الفيلم، وذلك هو ما تجسده بطلة الفيلم الإيطالية سفيف الفيتي في أداء مقنع تماماً لمبتدئة مثلها، وهي التي تحولت مع هذا الفيلم من عارضة أزياء مغمورة إلى ممثلة.
وعلى رغم الشبه الكبير بين سفيف والنجمة الراحلة، بالإضافة إلى الجاذبية الكبيرة التي تملكها عارضة الأزياء السابقة، وقدرتها الأدائية المقنعة بشكل كبير، ما جعلها تبدو مسيطرة على انتباه المشاهد في كل مشهد ظهرت فيه، وعلى رغم تميز جميع من ظهر في الفيلم من ممثلين، إلا أن الفيلم الذي تتجاوز مدته الساعتين بقليل، جاء غير مقنع، وذلك حين فضّل الخوض في مغامرات داليدا العاطفية والاكتفاء باستعراض عدد غير قليل من أغانيها، بدلاً من البحث في حياة المغنية الراحلة بشكل أعمق قد يعطي تفسيراً مقنعاً للعنة التعاسة التي لازمتها طوال حياتها.
حقيقة، بقدر ما كان إنتاج الفيلم قوياً، وبقدر ما كان أداء ممثليه رائعاً، وكذلك بقدر ما تمكّنت المخرجة وهي نفسها كاتبة الفيلم من أن تدير ممثليها، وربما يعود لها الفضل في تميز أداء بطلة الفيلم سفيف في أول أداء لها، إلا أن الإخفاق الحقيقي يعود إلى نص الفيلم الذي قدّم داليدا على أنها شخصية غير حقيقية، فهي نجمة وامرأة مزاجية تتنقل من حبيب إلى آخر، تهجر أحبّتها وتتسبّب في أذى عاطفي لهم يؤدي إلى انتحار ثلاثة منهم، وذلك بحسب ما يود الفيلم الإشارة إليه.
ينتهي الفيلم دون أن يكون قادراً على أن يجيب على سؤال: من هي داليدا أو يولاندا؟ لماذا لم تكن سعيدة؟ ولماذا أخفقت في الحب؟ وأي ضغوط عاشتها كإنسانة قبل أن تكون فنانة؟ وأي حياة خاضتها بعيداً عن الفن والمغامرات العاطفية؟
يشار إلى أن الفيلم قدّم عرضه الأول في منطقة الشرق الأوسط في مملكة البحرين وذلك بعد عشرة أيام من افتتاح عروضه الفرنسية. وجاء العرض ضمن الأسبوع الفرنسي الذي أقيم في الفترة ما بين 18 و 23 يناير/ كانون الثاني 2017، بتنظيم من السفارة الفرنسية والمركز الثقافي الفرنسي (الإليانس فرانسيز) وذلك للعام الرابع على التوالي.
لازم نحط في الأعتبار أنه كل أزواجها الثلاثة ماتوا أنتحارا، وبأعتقادي هذا عامل قوي لأنتحارها.
السينما هي مرآة القوانين البشرية،
والأنسانية هي المحرك الرئيسي للعلاقات البشرية..
ربما لم يوفق المخرج في معالجة بعض القضايا الأجتماعيه للفنانه داليدا أو تسليط الضؤ على بعض الأجزاء الإنسانية للفنانه الراحلة بسبب ضيق الوقت أو التوجه التجاري للسينما بشكل عام..
مقالة اكثر من رائعة وتحليل في العمق. شكرا جزيلا